عثمان جلال يكتب: فصل الدين عن الدولة في السودان

(1) 

الحضارة تنهض بقانون التحدي والاستجابة،والدين عنصر فاعل في صنع الحضارات، فالتتر عندما دخلوا بغداد طمسوا مكونات الثقافة والحضارة الإسلامية ولكن عندما لم يقدموا البديل الحضاري أصبحوا حماة الثقافة الإسلامية التي جاءوا لاستئصالها، وإفريقيا الارواحانية والوثنية لم تشهد نهضة من وهدتها الحضارية الا بعد ان غشيتها واردات الثقافة الإسلامية والعربية القادمة من الأندلس حيث تأسست ممالك غانا ومالي وصونغي وتمبكتو، واكتسبت هذه الممالك وهجها الحضاري َمن خلال تفاعلها الثقافي والسياسي والاقتصادي والاجتماعي مع منطقة الشرق الأوسط موئل الديانات التوحيدية، وحيث توجد مراكز الإشعاع الديني والعلمي، ولذلك فإن مملكة اكسوم الحبشية نزعت لغزو مكة لتغيير مجرى التفاعل الحضاري والثقافي والديني والاقتصادي غرب البحر الأحمر بدلا عن شرقه، ولذلك فإن الجغرافيا الشرق أوسطية تستمد وهجها الحضاري والجيوسياسي باعتبارها مركز الأديان ومهد الأنبياء، والعرب كإثنية كانوا في حالة تيه حضاري، ولم تكتسب العروبة مغزاها الحضاري والثقافي الا بعد صعود الدين الإسلامي 

(2) 

أثبتت الدراسات الأثرية والحفريات التاربخية أن الثقافة التوحيدية وفكرة الإله راسخة في الوجدان السوداني منذ انسان سنجة الأول،وفي كل الموجات الحضارية الموغلة في القدم والتي تشكلت في الخرطوم وخور ابوعنجة والشهيناب والكدرو، وقد بلغت ممالك كوش ومروي مرحلة النضج الحضاري عندما تعمقت في تلك الممالك عقيدة التوحيد وفكرة الاله والتي تبدت في بناء الأهرامات وعقلية الخلاص والحياة الأبدية في الآخرة، والمرويات التاريخية تكاد تؤرخ مرحلة الصعود الحضاري لممالك نوباتيا والمغرة وعلوة مع قدوم حملة جستنيان التبشيرية وقبل ذلك كانوا صابئة يعبدون الكواكب.

(3)
كل الممالك التي تأسست في ما كان يعرف قديما بالسودان الشرقي بدأت في الدخول في دائرة التأثير الثقافي والحضاري بعد اعتناق ملوكها الدين الإسلامي واللسان العربي وقيادتهم لتنزيل ثقافة الدين الجديد إلى قاعدة المجتمع،فالأب المؤسس لمملكة الفونج عمارة دونقس أدرك بثاقب حسه حالة الفراغ الروحي والثقافي داخل مملكته وأعلن بقرار ملكي فوقي عام 1517م إنهاء الوثنية وأسلمة الدولة والمجتمع،وانفتحت المملكة في تسامح لقبول الإسلام الصوفي بقيادة الشيخ تاج الدين البهاري، والإسلام السلفي بقيادة محمود العركي، ودخلت مملكة الفور الوثنية دائرة الاشعاع الحضاري والثقافي بعد قدوم القائد العربي والإسلامي أحمد المعقور من غرناطة وزواجه من الأميرة كيرة ابنة ملك الفور الوثني روتشيل والتي أنجبت له سليمان صولونج والذي خلع عن المملكة رداء الوثنية ونادى بأن دارفور مملكة إسلامية، والنوبة رماة الحدق رفض بعضهم حركة الأسلمة والتعريب بعد اتفاقية البقط، وتقهقروا من الشمال إلى الجنوب لم يدخلوا في ومضة التأثير الحضاري الا بعد قيام مملكة تقلي الإسلامية بقيادة الثنائي العربي والافريقي (محمد الجعلي، كيركيت) وكل هذه الممالك الاسلامية كانت تفاعلاتها شرق أوسطية.

(4)
أدرك محمد علي باشا عمق تأثير الدين في السودان لذلك عندما أراد اخضاعه لمملكته ربط شرعية الاخضاع تحت ستار الضم لدولة الخلافة الإسلامية في تركيا، وبعث مع جيشه ثلاثة من علماء المالكية والشافعية والحنفية لإقناع السودانيين بالاستسلام وعدم المقاومة ولم يسقط الحكم التركي المصري في السودان الا بثورة إسلامية كبرى استمدت شرعيتها من فكرة المهدي المنتظر، وشرعنة بريطانيا غروها للسودان عام 1898 بمنطق إنهاء التمرد المهدوي واعادت ضمه لمركز دولة الخلافة الإسلامية، ولذلك لم تنزع بريطانيا لتجريف وطمس مرتكزات الهوية السودانية والمتمثلة في الإسلام والشريعة واللسان العربي.

(5)
والدين كان وقدة ملهمة في مسيرة الحركة الوطنية السودانية التي قادت ثورة الوعي والتنوير والتعليم وقد عبر عن ذلك الشاعر التني( بديني بعتز وابشر،،، ما بهاب الموت المكشر،، ما بخش مدرسة المبشر،،، وعندي معهد وطني العزيز. وفي يوم الاستقلال صدع صوت المقري حسين عبد العزيز لأول مرة في قصر غردون باشا بآية الاستخلاف.

(6)
ظل اسلام أهل السودان الوسطي والمتسامح فاعلا في تجارب الحكم الوطنية المتعاقبة منذ الاستقلال، ومحركا لقواعد الأحزاب السياسية الكبرى، وهاديا ثقافيا لقيادات الأحزاب والنخب الفكرية، ولم تدعي حركة فكرية سودانية انها تمثل ظل الله في الأرض ولم ينزع حزبا سياسيا امتلاكه ناصية الحقيقة المطلقة والحق الإلهي في الحكم، ولم يكن الدين والشريعة باعثا للتمرد عام 1955،ولا سببا لتشكيل حركة تحرير جنوب السودان بقيادة جوزيف لاقو)، ولا دافعا للتمرد الثاني عام 1983، بقيادة الراحل قرنق ولم تكن الشريعة سببا لتناسل الحركات المسلحة في دارفور، وجبال النوبة، والنيل الأزرق والشرق، والوسط والشمال، بل إن الشعارات التي ترفعها هذه الحركات المسلحة والمتمثلة في العدالة، والحرية، والمساواة ، ودولة الديمقراطية والقانون من صميم قيم الدين والشريعة.

(7)
لا يوجد صراع بين الدين والديمقراطية الا عندما يكف الدين عن كونه متسامحا، ويرى هيغل أن قيم الدين المسيحي مهدت الطريق أمام الثورة الفرنسية ، ويؤكد ماكس فيبر أن صناع حركة الإصلاح الديني البروتستانت وراء نشأة الرأسمالية الغربية، وكل فلاسفة عصر النهضة والتنوير في أوربا كانوا متدينين باستثناء قلة من الملاحدة أمثال ماركس ونيتشة وفيورباخ، وقديما ذكر حكيم الصين كونفوشيوس في كتابيه (التعليم الأكبر، الاغاني) محددات الحكم والحاكم والمتمثلة في الفضيلة والأخلاق، والصلاح، وان جوهر الديمقراطيات الغربية الحالية هي مسيحية كاثلوكية، وأكد هابرماس أن الحضارة الغربية المعاصرة لن تستمر في قيادة الإنسانية الا بتعظيم دور الدين في الحياة والمجتمع، وفي روسيا مركز الشيوعية وضع فلاديمير بوتين مرتكزات صناعة النهضة والحضارة الروسية وفي طليعتها الكنيسة الأرثوذكسية.

(8)
الازمة ليست في العلاقة الارتباطية بين الدين والشريعة والدولة في السودان، ولكن في السلوك السياسي للأحزاب الوطنية وعجز الطبقة السياسية السودانية منذ الاستقلال في بناء العقد الاجتماعي، واجتراح المعادلة العبقرية التي تنهي الدورة الشريرة في الحكم،وترد قوامة الحكم للمجتمع، وعندما يكون المجتمع هو الأصل في الحكم، والقوة الذكية للأحزاب السياسية والرافع والخافض للقيادات في بنية الاحزاب ومؤسسات الحكم عندها سيتحقق التماثل الفكري والسلوكي للطبقة السياسية الوطنية مع ذات الشعارات التي كانت باعثا للتفرقة والتمرد والانفصال ولعمري ما ضاقت بلاد بأهلها ولكن أخلاق الرجال تضيق.

زر الذهاب إلى الأعلى