سكرتير حمدوك يكتب: قصي همرور مرة أخيرة

بقلم: النذير البراق

الكتابة ما بين التفسير ومآلات التأويل والتقويل

لسوء الحظ أن كتابتي عن دور قصي همرور في الثورة ارتبط بوثاق شديد العُرى- في ذهن عدد كبير من القُراء- مع تعيينه في وظيفة عامة!

ومن الأقدار الحتمية أن مأربي من التعليق كان في خضم نقد هدام ممن يعادون مشروع التغيير قولاً وفعلاً ومحاولاتهم البائسة في انتياش قصي ودوره شخصياً ومساهمته في التغيير، حيث ربطوا بين أحقيته في التعيين ومكانه في خريطة التغيير بُعداً وقُرباً.

ولولا ذاك النقد لما كان تعليقي، لكن التعليق كان رداً على من اختاروا توقيت الانتياش الذي لم أحدده، وبالتالي كان بالضرورة أن يرد في معرض القضية ليس قبلها ولا بعدها.

للأسف، من التقط تعليقي بعكس ما ورد، أغلبهم ليسوا من هذه الفئة، فئة الناقمين على التغيير، بل هم من صانيعه والمساهمين فيه لسنوات ومن يفترض فيهم صيانته وتدبير نجاحه، عبر التوجيه والمشاركة والنقد البناء، والأهم الأهم عبر القراءة الصحيحة للأحداث والمقولات والملعب الذي تدور فيه هذه الأحداث.

الأمر الثاني الذي ظللت أكرره أن التعيين نفسه وطريقته لم يكونا هدفي من التعليق، بل لم ترد أي عبارة تشي بذلك، وقد وضحت في مقام آخر أن أمر التوظيف والتعيين لم يكن هو دافع تعليقي، بل كان الدافع هو وصف بعضهم لقصي بالقعود والنأي عن فعل الثورة في الوقت الذي كان فيه الشعب واقف.

وزدت على ذلك بانتقادي لمنهج التوظيف في كامل الدولة السودانية الحديثة وطوال تاريخ تعاقبت خلاله الحكومات وتنوعت أساليب إدارة الدولة فيه، وأكدت أن نهج الإنقاذ في التوظيف والتعيين اتّخذ منحى أكثر سوءاً، ولكن ماذا نفعل مع ردود الفعل التقريرية التي تحاسبك على ما يعتمل في العقول لا ما تخطه الأيدي، ويردون ويتفاعلون مع توقعاتهم وقرآتهم لما خلف السطور، مع أن السطور نفسها كانت بيِّنة وواضحة المغزى بل استبانت أكثر في منشورٍ تالٍ!

إن ما نتحدث عنه هو ثورة شعبية، وإن كان الأمر كذلك فمن يُماري في دور الشعب فقد فارق معنى الثورة بدءاً. وإن كان الفعل الثوري ضد الاستبداد والديكتاتورية فلا مناص من ارتباط الثورة بالشعب والشعب بالثورة، فمعنى الثورة وقيمتها ينتفيان في غياب الشعب، ودور الشعب وقيمة وحدته يصبحان في حكم المؤجل إن لم تحدث الثورة، وهكذا فإن الشعب والثورة في وصف ( ثورة شعبية) صنوان متلازمان.

لكن الشعب ليس كوم رمل تذروه الرياح فتحطه في مكان وتنقله لآخر، بل الشعب تكوينات شكّلها أفراد تكاملوا في الأدوار وتضامنوا تضحية وبأس لتحقيق هدف بعينه. ومن هنا أتى التعليق عن دور أحدهم، وقبلها كان تعليق عن دور لآخر أو لأخرى، وسيتواصل التعليق والتوثيق مني ومن غيري، للأدوار ولنوع النشاطات للأفراد والجماعات، فبعضنا يوثق لدوره وبعضنا يوثق لدور تنظيمه وبعضنا يوثق لدور آخرين والبعض يوثق للشهداء والجرحى والمعتقلين، فلولا هذا التوثيق والتعليق لما علم الناس سيرة الشهيد عبدالعظيم ولا سيرة كشة أو فايز طلقا ولا سيرة زيتونة أو قوى الحرية والتغيير وتجمع المهنيين ولما اجترح الناس مشروع لجان الأحياء ومشروعيتها باعتبارها تنظيم ناجع قوامه وميسم عمله تراكم الخبرة الثورية والتنظيمية للثوار.

وكل يوثق لما علمه أو ما أحاط به علماً ودليل، وبالتأكيد ليس بين كل هؤلاء من هو محيط عليم، وذلك لأن عوامل تنوع الزمان والمكان والأحداث حاضرة، فكيف يجوز أن يظن ظان أن هناك من يجرؤ على إدعاء إحاطته بجوامعٍ هو مجرد جزيئ صغير منها؟ جزيئ ربما لا يُرى بالعين المجردة.. وكيف لترسٍ صغير في ماكينة أن يحدد مسار قطار ضخم؟

عندما نقول ” لو أن” فذلك يعني أن الأمر غير وارد خصوصاً لو أفادت هذه ال(لو) أحداث الماضي.

وقد ورد في المعجم الجامع عن كلمة (لو) ما يلي: لو حرف شرط غير جازم يفيد التعليق في الماضي أو المستقبل، يُستعمل في الامتناع أو في غير الإمكان، أي: امتناع الجواب لامتناع الشرط.

وفي ما مكتوبي كان حرف (لو) هو مفتاح التعليق، لا أي شيئ آخر؛ (لو كنتُ غنيًّا لتصدَّقت بنصف مالي) وأنا لست غنياً فكيف ساتصدق بنصف مالي؟! ولو كنت صانع الثورة لأدرت دفتها نحو تطبيق شعاراتها قولاً واحداً والآن وليس غداً، ولكنني بالتأكيد لست صانعها فكيف أدير دفتها؟! هذه مقولات مستحيلة، فهي مثل الخِل الوفي.. ويا ليتنا في زماننا هذا نظفر بمجرد الخٍل ناهيك عن وفائه! بل ليتنا نظفر بالذي لا هو خِل ولا عدو، فقط، ليتنا ظفرنا بالعدل في الأحكام من أي شخص كان!!

لقد كان التعليق: لو أن هناك عشرة ساهموا..الخ. إذاً من ساهموا ليسوا عشرة!

وأعقبه التعليق: ولو أنهم خمسة..الخ

إذاً هم ليسوا خمسة!! وعطفاً على ذلك فإن ملخص حديثي هو عدم الإمكانية بعبارة تقديرها الاستحالة..

ورغم ذلك كان هناك من فهم إنني قلت أن من ساهموا خمسة!! وجه محتار. ولا ألوم من حوَّر العبارة ووضع ما عنَّ له من رقم، فالخائضون كُثر والتعليق بالمجان!

من ناحية أخرى افترض البعض أنني حين أقول بمساهمة عدد من الناس- في الخفاء- فذلك يعني أنني شملت نفسي من بينهم. هذا غير صحيح طبعاً:

أولاً: لأن لو لدي مساهمة في التغيير فهي لم تكن في الخفاء، ورغم معرفتي بتواضع وضآلة ما ساهمت به أمام مساهمات عظيمة إلا أنها لم تكن في الخفاء إلا بالقدر الذي يحمي أسرتي الصغيرة والكبيرة من الأذى.. هناك العشرات من الأصدقاء والمقربين كانوا على علم بما أفعل من جهد قليل لا يذكر في مقامات ذات بال، فكيف يكون في الخفاء؟!!

بالمقابل هناك أشخاص كانوا يعملون وبجهدٍ وجد، ليس في الخفاء فحسب، بل في داخل الأجهزة الأمنية للنظام وداخل القيادة العامة والأجهزة الشرطية وفي ظروف بالغة الخطورة ولا يعرفهم أحد، ولم يعرفهم أحد لا أنا ولا غيري حتى يوم الناس هذا!!

خلاصة القول إن من ذهب إلى أن منشوري كان بهدف تعظيم لدور أحد دون بقية أفراد الشعب السوداني مقارنة لا محاذاة أو صحبة ورفقة مع آخرين، فقد انحرف عن ما عنيته، ومكاتيبي الخاصة في هذا الجانب مبذولة في الأسافير والصحف ليس خلال العام ٢٠١٨ وما بعده بل منذ العام ٢٠٠٠..

إن إيماني بالجماهير وضرورة وحدة الشعب السوداني لمواجهة الاستبداد والقهر لا يحده حدود، وكل كافر بذلك في رأيي مكانه نار الثورة والتغيير طال الزمن أو قصر، تصلوه وتجلوه حتى يحترق أو يذهب عنه الصدأ. كما إن إيماني بمشروع القيادة الجماعية ليس في صنع التغيير فحسب بل في الوصول بهذا التغيير لمرافئ آمنة، ليس دافعه تذليل صعب العمل عبر توزيع المهمات، بل دافعه اقتناعي بأن العمل الجماعي يوطِّن الشعور بملكية مشروع التغيير من قِبل جميع من شاركوا وساهموا فيه ويعظّم فرص حمايته وصيانته.

إنني اعتبر دخولي في حوارات عبر مواقع التواصل الاجتماعي فرصة لي للوصول للمعلومات والاستفادة من تحليلات الآخرين، واستقاء المعرفة ممن هم أكثر جدارة مني، وأقرب لمواقع الأحداث.. بالمناسبة القرب من مواقع السلطة يجعلك أبعد شخص عن الأحداث في الواقع، فالواقع في الأصل يصنعه المحكوم لا الحاكم أو هذه قناعتي.

لذلك آليت على نفسي أن أبقى حيث أنا بين الناس لا بين الصوالين المغلقة، فمن يبعد عن مواقع الجماهير يكون في الدرك الأدنى، حيث التهويم والتصورات المجانية المجانبة للوقائع.

لكن مواقع التواصل الاجتماعي أضحت مكاناً ملائماً للتراشق اللفظي والأخبار غير الموثوقة وهذا يستوجب إعادة النظر من الجميع، خصوصاً ممن يبحثون عن الدقائق ولا يستنزفون فقط الدقائق.

والأدهى من ذلك أن وسائل التواصل الاجتماعي أضحت بيئة خصبة لقراءة النوايا والمحاسبة عليها من أشخاص، أسهل ما يمكن أن يفعلوه هو ضغط زر السؤال والاستفسار والاستفهام، بدلاً عن أزرار التجريم والتهكم وإصدار الأحكام! ليس ذلك لقدرتهم على التحليل فحسب ولكن لأن استجلاء الأمور يحسٍّن من إتخاذ المواقف الأكثر دقة وصحة، ولكن من يريد ذلك؟!

إن خطر جائحة كورونا في بلادنا وفي عموم الكرة الأرضية يتزايد في كل يوم، لذلك وجب عليّ الاعتذار عن شغل هذه المساحة- رغم أنها مساحتي الخاصة- بقضية تبدو وكأنها شخصية، لكن من ناحية أخرى أرجو أن تكون كتابتي هذه قد لامست القضايا العامة بمقدار معقول.

ربما لا أعود لهذه القضية مجدداً، بل إنني أفكر جدياً في الامتناع عن الكتابة هنا، والاكتفاء فقط بالقراءة للاستفادة مما يكتب أصحاب الجدارة والرأي السديد في قضايا شتى مهمة.

زر الذهاب إلى الأعلى