إبراهيم عثمان يكتب: من السيرورة إلى الصيرورة

من السيرورة إلى الصيرورة: القحتنة والتبليد بين مرحلتين

إبراهيم عثمان

كنت قد عرَّفت القحتنة في مقال سابق بأنها (عملية تبليد مركبة ممنهجة تستهدف الوعي العام بواسطة سيل من المواد الخبرية والقصص المضروبة التي لا يمكن تصديقها إلا بغياب تام للعقل النقدي) لكن الاستمرار في التأمل في ظاهرة القحتنة يثبت أن ذلك التعريف – رغم ما يتضمنه من حكم قيمة سلبي قد يرى فيه البعض تجنياً لا ينسجم مع التناول العلمي للظاهرة – قد لا يفي بالحاجة، فعمليات التبليد أكثر فجاجة ولؤماً من أن يغطي ذلك التعريف ما تستحقه من أحكام القيمة السلبية. فهناك تبليدٌ داخل التبليد، وهناك عادات منطقية تُرسَّخ ثم تُسفَّه بكل سهولة، ليتم العدوان على المنطق من الجهتين . وهناك من المخمومين من تستهويهم هذه الألاعيب التبليدية، إذ لا يستطيع أحد أن ينكر حقيقة أن أحزاب الفكة اليسارية قد أثبتت كفاءة عالية جداً في الاستقطاب التبليدي أو التبليد الاستقطابي (لا فرق)، فقد اتسق الإثنان وتماهيا حتى ما عاد يفرق أن يكون أيهما هو علة الآخر أو تعريفه.

والثابت يقيناً، وبأوضح صورة، أن أحزاب الفكة اليسارية قد كتبت فصول منهج دراسي كامل في فنون التبليد والتلاعب بالوعي والبرمجة وإعادة البرمجة، حتى أتى وقتٌ بات فيه ما تفعله وهي خجِلة، فتعيد تسميته ليكون أحرى بالقبول، هو أكثر ما بستهوي المبلَّدين فلا يمانعون في أن تسميه بإسمه الحقيقي القبيح، وتفعله بأسوأ طريقة ممكنة، وسيكون في ذلك مزيد إشباع لهم، لأن إدمانهم قد أصبح مثل إدمان المخدرات لا يشبعه حجم الجرعات القديمة، ولأن ستر التبليد الذي يتعرض للإنكشاف لا يكون إلا عبر الإغراق بمواد تبليدية جديدة تلبي حاجة المدمنين، وتعوِّضهم، وتحفظ لهم ماء الوجه .

لم تواجه أحزاب الفكة اليسارية أي مشكلات ناتجة من التضارب بين طبيعة التبليد المطلوب في فترة ما قبل توليها للسلطة، والتبليد الذي يناسبها وهي في السلطة، وقد تم الانتقال بسلاسة من البرمجة التبليدية القديمة ببروتكولها “الأخلاقي” وقواعدها وعاداتها “المنطقية”، إلى البرمجة الجديدة التي تتناقض معها تماماً. وقد تمكنت بمهارة استثنائية من إعادة برمجة متعاطي العلف، فقبل السلطة كانت قد برمجتهم على محاصرة الحكّام بالمطالبات وبالانتقادات على أقل تقصير، حقيقياً كان أو مصنوعاً، وعلى التعاطف المبالغ فيه مع ضحايا التقصير وبعضهم لا وجود له أصلاً، وعلى الحملات النشطة للتضامن مع أي بقرة حقيقية أو وهمية تتعثر أو تمثِّل التعثُّر في الواقع، أو في أقصى مكان اسفيري، وعلى أن الجيش عدو لا يستحق إلا حملات الشيطنة، وعلى أن مبلغ اهتمامهم بأي عدوان أجنبي على الأرض لا يجب أن يزيد عن الشماتة المصحوبة بتشجيع المعتدي، وإيجاد الأعذار له، والتطوّع لإسناد وزارة إعلامه أو في فرع التوجيه المعنوي في قواته المسلحة، وعلى أن الخيانة ليست مجرد وجهة نظر بل هي الحق المطلق، وعلى أن كل الأفعال جائزة ما دامت تصب في مصلحة الهدف، وعلى أن كل أنواع الشائعات الضارة خصوصاً بالأمن والإقتصاد هي من جليل الأعمال النضالية الوطنية … الخ والآن تجري عملية إعادة برمجتهم على نضال جديد يمشي بالممحاة على كثيرٍ مما ترسَّخ من عادات نضالية، وبروتوكول أخلاقي وقواعد منطقية، فالمطلوب الآن لوم البقرة حتى لو عثرت داخل أسوار القصر الرئاسي، وأن ينتقل المبرمَجون على الإنتقاد وعدم الرضا، القادرون على توليد مواد الإنتقاد من أبعد مظانها، إلى مبرراتية يجدون لكل تقصير عذرا، إن لم يعلقوه على مشجب الإنقاذ، هذا إن اعترفوا بوجوده أصلاً ولم يحولوه، بما أتقنوه من فهلوة تبليدية، إلى أم الإنجارات. بينما كانوا يبرعون في تحويل الإنجازات الحقيقية إلى نقيضها، حتى لو كانت انجازاً في حجم سد مروي الذي كتبوا مئات، وربما آلاف، المقالات عن أهدافه التآمرية على الإنسان، وعلى التاريخ والجغرافيا، وعن أخطائه الفنية، وعن أضراره البيئية، وعن توربيناته المعطلة وعن كهربته المعدومة .. إلخ. وهو ما لم يثبتوه بالدليل الآن، ولو بشهادة تضليلية من وزيرهم المختص، أو من صحفيهم البعثي المسؤول عن ملف الكهرباء .

إذن استطاعت أحزاب الفكة اليسارية أن تنقل متعاطي علفها من سيرورة التبليد إلى صيرورته، فهي، كما أسلفنا، كانت قد برمجتهم على عادات تبليدية مستقرة، وفي حالة سيرورة، أي سير تراكمي على نفس العادات التبليدية، وإن كانت هناك تناقضات داخلية فهي لا تنفي عنها سيرورتها، أي تراكمها الكمي لخدمة الهدف في تلك المرحلة، لكن تلك العادات التبليدية لم تعد تتناسب مع مرحلة السلطة، ولذلك أتت مرحلة الصيرورة التبليدية ( من صار، أي تغير)، أي مرحلة التحول النوعي في طبيعة المواد التبليدية. ومع ذلك يجب الاعتراف بأن هذه الصيرورة قد استثنت بعض جوانب التبليد والعادات النضالية وأبقتها كما هي أو خففت منها قليلاً، فبينما تم الانتقال الكامل من تبليد الإفراط في الإنتقاد للحكام، إلى تبليد الإفراط في تمجيدهم، والدفاع عن تقصيرهم وصناعة انجازات وهمية لهم، بينما يحدث هذا، لا زال الانتقال متعسراً فيما يخص بعض جوانب التبليد، كاستمرار حالة الامتنان للمعتدين الخارجيين، واستمرار مطالبتهم بفرض العقوبات على أجهزة الدولة الأمنية، كما فعلت الأيقونة المصنوعة أمام الأمم المتحدة، حين طالبت باستمرار الحصار والعقوبات عليها، وكما يفعل غيرها من قادة أحزاب الفكة اليسارية، ولعل مرد ذلك ألى عدة أسباب، منها الشعور بأنهم في حالة تنافس، أو حتى صراع، مع هذه المؤسسات، والرغبة في السيطرة الكاملة عليها، والإيمان الراسخ بأن السيطرة التامة لن تتم إلا بعد الإضعاف التام، ومنها صعوبة الانتقال من حالة الكراهية الشديدة للجيش المتّهَم لديهم بإفشال كثير من خططهم طوال السنوات الماضية، ولأنه، مع بقية الأجهزة الأمنية، يمثل في وعيهم العدو الاستراتيجي لصعوبة تغيير عقيدته القتالية التي عنوانها الأبرز حماية الوطن إلى عقيدة قتالية مرنة ومتسايرة وتلتقي موضوعياً مع أهداف كثير من أعداء الوطن الخارجيين وأذنابهم بالداخل.

زر الذهاب إلى الأعلى