إبراهيم عثمان يكتب: عن جدل الأصيل والدخيل

عجبت لمن يرى أمامه مرعى الأفكار الأصيلة أخضرَ زاهياً يغري المشترين، تتنوع مدارسه ويستعصي على الاحتكار مما يتيح له فرصة الإقتباس منه دون خوف محاكاة أو تواطؤ مع الخصوم، كيف جاز له أن يزوٓرَّ عنه، وأن يتركه لخصومه مانحاً إياهم انتصاراً مسبقاً قبل بدء المباراة ، وآخر أثناءها، وثالث بعدها. 

 وأن يقترح مراعٍ بديلة لا تتوفر مقومات السريان الكبير الفعلي لمنتجاتها وسط الجماهير، ويهرب من الواقعي الذي يسهل التبشير به إلى الإفتراضي الذي يحتاج إلى مرافعات عن ماهيته وعن إمكانية قبوله قبل إمكانية تحققه، من المتعين إلى الوهمي الذي لا يتم تعيينه ولا تتم وقعنته إلا بشقلبات وتهويمات مفهومية مرهقة لا يطيق معظم الشعب رهقها.

وإن غامر البعض وفعل، فإن معظمهم سيرضى من الغنيمة بأنه قد فهم الرطانة .،وبعد الفهم يحتاج معظمهم إلى قابليات خاصة مسبقة حتى يتمثلوا الفكرة، وبعد التمثُّل يحتاجون إلى استعداد خاص وقابليات خاصة حتى ينتقلوا إلى طور الإيمان بأن المستحيل (الغريب الشاذ) يستحق أن تتم محاولته بأي ثمن حتى لو كان ذلك الثمن هو حياة الكثيرين من البسطاء المستخدَمين، وقليلٌ من هؤلاء المؤمنين من سيقبل خوض رهق التجربة فيحمل السلاح بنفسه، فالمؤمنون الممتلؤون بالنظرية سيحمون أنفسهم ويبقون بمنأى عن الفعل الوحيد الذي يحتل عقلهم الباطن كوسيلة وحيدة لخلق إمكانية تنزيل الفكرة : الحرب ، فهي وسيلة الإحتجاج القصوى على واقع يسخر من النظرية قبل أن يسخر منها الخصوم، وهؤلاء سيظلون على عادتهم في التنظير البارد لمحاولات استزراع مراعٍ جديدة حيث لا أرض تحتفي بالبذور، ولا مطر يسقي، وحيث لا أيدٍ عاملة كثيرة تكلأ المرعى بالرعاية، وتجلب له ماء الحياة، وحيث لا نهر يفيض، ولا بئر توالي النبع ، وبالتالي لا زرع لترعى منه الأفكار فتسمن وتتعافى وتسر الناظرين فتجد من يشتريها.

عجبت لمن يعاند الواقع، ويجتهد لكي يجعل الواقع يكذبٓ ذاتٓه ليشهدٓ له، عجبت له كيف جاز له – وهو يعلم مسبقاً بأن فكرته عسيرة الهضم صعبة التمثُّل – أن يقبل بأن يكون آخر ما يفكر فيه هو الثمن الباهظ الذي يدفعه المناصرون الأبرياء والمخاصمون الناصحون، عجبت له كيف يذهل عن الحقيقة البسيطة الفاقعة في وضوحها والقائلة بأن محاولات الدخول القوي العنيف على الواقع لتغييره جذرياً ليستوعب النظريات الدخيلة، ما هي إلا مجرد تعبير عن ضعف جوهري تكويني في أصل الفكرة، فالفكرة صعبة الهضم بائرة السوق تبحث عن منافذ البيع القسري عبر تلاعبات واحتيالات تشكل في جوهرها عنفاً على الحقيقة وعلى الواقع وعلى البشر والأشياء، فتكون النتيجة الحتمية حروباً عبثية تؤذي أول ما تؤذي من يُقال بأنها كانت لأجلهم ومعهم طائفة من الأعداء المعلنين والضمنيين والوطن بكامله، ويتناثر أذاها فيصيب القيم والمبادئ والمثُل والأخلاق فلا يبقى مجال بمنأى عن أذاها.

عجبت له كيف يرى مثالاً بالغ الوضوح والدلالة في جنوب السودان ، أثبت كل السالف ذكره وأكثر ، ثم يطمع في أن يكرر الأمثولة في واقع هو أعند بكثير من ذلك الذي تحطمت النظرية وهي تصارعه !

 عجبت لصاحب الميزان الحساس الذي يقيس به أفعال وأفكار الآخر فلا يفلت منه شئ دون حكم ضخم بالتجريم والتأثيم ، فإن لم يجد الإثم في المتون ، بحث عنه في الحواشي ، فإن عاندته وتمنعت صنَّع بنفسه الحواشي التي لا ترتكب جريمة الخروج على مسطرته التأثيمية ، لتأتي نموذجية لتشغيل أحكام الإدانة ، عجبت له كيف يستمتع بالأحكام – أحكامه – وقد جانب تصنيعه الإحكام ! كيف له أن يسترخي ويصدر حكماً يمكن أن يُؤبه له على حدثٍ ونصف ذهنه كان مشغولاً بتصنيعه!.

ثم كيف له أن يسوّق لنا ميزانه ومسطرته الفائقة الحساسية ، ونحن نراها وهي تذهل عن طوام في كافة المجالات تصل إلى درجة من الوضوح تلامس الحد الأقصى الذي لا يعمى عنه إلا مؤيد متعصب ، أو غبي أو متغابي جاهل يظن أن الصمت عن الطوام هو مساهمة ذات جدوى في التغطية عليها.

بينما هو في حقيقته نزع للغطاء عن الطوام فقد كانت من السوء إلى الدرجة التي ألجمت لسانه المتقحم الثرثار ! وقبل ذلك عن ذاته الثرثارة التي تظن واهمةً أن الصمت عن كبائر فاقعة الوضوح، فعلاً ودلالة، يمكن أن يمر دون تساؤل عن حقيقته ممن تعودوه خطيباً ومحاضراً لا تفلت من مسطرته شاردة ولا واردة .

عجبت له ولمسطرته كيف تترك كبائرَ قصوى بالغة الدلالة دون أدنى تعليق وهي تغطي كل المجالات : سياسة ، اقتصاد، اجتماع ، دين … الخ، عجبت لمن ينعقد لسانه الثرثار ويتعامى عن كل هذا، كيف له بعد هذا أن يستمر في تشغيل مسطرته التى تعمى عن كثير من المثبت لتقيس وتحاكم المصنّع والمضخّم والحقيقي الذي تُعاد هندسته ليقع تحت أحكامها التأثيمية بسلاسة ودون تمنُّع .

عجبت لمن يضع نفسه في طريق الدين متعرضاً ومناكفاً لا مستقبِلا وموالفاً ،

عجبت له : كيف يشغل نفسه بمحاربة النبع ويطمع في الإرتواء ؟! كيف جاز له أن يحتاج موقفه من الدين إلى شروحات وتوضيحات تدرأ عنه شبهة المعاداة ، ثم يطمع في التفهُّم من غالبية الشعب المتدين بالفطرة ؟!.

إن وجدت شروحاته وتوضيحاته التفهم من القلة فبالتأكيد لن تجد الحماس ، فهو قد صب مع سبق الإصرار والترصد ماءً بارداً على شعلة الحماس وقطع عنها أسباب الحياة ، فهو بنفسه ليس متحمساً لشئ ذي بال ليستحث حماس الجماهير غير حماس الهدم ، وحماس الهدم والإلغاء ليس كحماس البناء الذي يصمد أمام الصعوبات ويهزأ من الممانعات.

ومن كان مبلغ وعده هو إلغاء الآخر ومحوه من الوجود، وأضاف فكرته الأصيلة إلى قائمة الإلغاء، فقد ابتذل الوعد وأرسل للجماهير مسبقاً رسالة تنفير ثلاثية الأوجه : هدمٌ همجي للآخر سيخشى الغالبية من شظايا فعله، ومن عواقب ارتداداته، وجديدٌ هو في رحم الغيب سيُترٓك أمر تفصيل ملامحه لصدف التفاعل بين خارجٍ يعز تلقي دوره بالتفهم ، وبين داخلٍ متشظٍ وكامن صراعاته البينية التي يُراد تفجيرها تبشر بأن الجديد الذي يبشروننا به هو مرحلة الحديد الذي يفل الحديد ،و قديمٌ ضارب الجذور في تربة تحتويه بحب ويستعصي على المحو حتى إن أرهقته آلة الهدم.

إذ لا مقارنة أصلاً بين من يكون مبلغ وغاية التهمة التي يمكن أن توجه إليه هي أنه لم يكمل الإلتزام ولم يبلغ المثال ، وبين من يمثل المثال كما هو في المخيال الجمعي كابوسه الأبدي.

فالأول قد يُعذٓر بالنقص البشري لأن ابتذال التجربة البشرية، بإكراهاتها وضروراتها وتحدياتها، للأفكار المثالية وعدم بلوغ كمالات الوعد هي من المعلوم من سنن الحياة بالضرورة ، أما الثاني فالإبتذال لديه يتلبس أصل الوعد ومبدأه .

زر الذهاب إلى الأعلى