إبراهيم عثمان يكتب: الحجاج بن الفكي

جاء في الخطبة الأخيرة للحجاج بن الفكي التي حاول فيها أن يستعرض كل مهاراته اللغوية وأفانينه البلاغية بعد تشبيه اللجنة بالنيل والجبال : (هناك مجموعة تأتي انتقاداتهم *بصدق ومحبة* نسمع منهم ونتبادل الأفكار والرؤى، ومجموعة ترغب في تفكيك لجنة التفكيك قبل أن تفككهم، وهذا صراعٌ مفهومٌ بين الخير والشر، ولهم نقول :” ذكرانا في ليل المدينة متخاصمان إلى الأبد ..شتان بين الحضرة الغناء والناي الذي يهب الحضور لكل أبناء البلد .. وبين من باعوا لنا الأحلام في الورق الملون والقراطيس المليئة بالزبد “.

مجموعة ثالثة من الساسة والكتاب وأصحاب الأموال اختاروا في لحظة التاريخ الحاسمة الجانب الخطأ فسقطوا مع النظام البائد وهؤلاء هجومهم على اللجنة مداراةً لعوراتهم وتكنيك بدائي قائم على نظرية خير وسيلة للدفاع الهجوم . لهم نقول : كنتم صحبة راكب، ونحن في شغل بصاحب الدابة، وإنما نؤجلكم ليوم قريب)

مع كل هذا التمحك بالفصاحة والبلاغة اللاذعة، كانت الركاكة حاضرة بقوة، ليس فقط في المعاني شديدة البؤس التي قام الحجاج بن الفكي بطلائها بالكلمات المنمقة،.

ولكن أيضاً في طريقة نطقه للكلمات فقد كانت هناك كلمات من نوع (انتغاداتهم، غَبْل، نغول، زكرانا، الوَرَغ، الغراطيس، سغطوا، غائم، ليوم “غريب”)، وكان هناك الجمع الفاضح بين (متخاصمان إلى الأبد) و(الناي الذي يهب الحضور (لكل أبناء البلد) كيف يهبه لكل أبناء البلد والخصومة الدائمة يُراد لها أن تكون شعاراً جميلاً يحمل البشارة ويزين السهرات ويجمِّل العهد ويتحمل مسؤولية الفشل؟. 

فكرة ترتيب المستهدفين بأعمال اللجنة وفق معدل العداوة هي أيضاً فكرة لا تمت للعدالة بصلة، وما كان لها أن تمر دون أن تثير الجدل إلا لكثرة العك والفوضى الضاربة بأطنابها في كل المجالات بحيث لا يستطيع المراقبون أن يلاحقوا كل أوجهها، فمهما جاءت طامة كانت هناك طوام أخرى أكبر منها لم تجد من كثرتها القدر الكافي من التعليق.

وفكرة التأجيل لحين قريب لمن كانوا (صحبة راكب) تصادر العدالة في كل الأحوال، فإن كان المقصودين بها قد ارتكبوا من الجرائم الحقيقية ما يستحقون عليه العقاب، ففي التأجيل تضييع للعدالة، فلمَ التأجيل بعد ما يقارب العامين من التحكم الكامل والصلاحيات المفتوحة؟ ألتدبير التهم إن لم يرعووا ويصمتوا؟.

أما إن كانت جريمتهم هي أنهم كانوا (كانوا في الجانب الخطأ) فيجب في هذه الحالة إصدار قانون جديد يصف الجريمة بدقة ويحدد العقوبات، على أن تسري على جميع المتورطين، وليس فقط الذين يتجرأون على الهجوم على لجنة الحجاج بن الفكي. 

الخطبة ما بين بدايتها التي تحيي الناقدين “المحبين” ونهايتها التي تحمل الوعيد لغيرهم تعيد إلى الذاكرة خطبة الحجاج الشهيرة التي حيا فيها أهل الشام وتوعد أهل العراق، يمكن إعادة صياغة بعض أجزاء الخطبة لتكون (التفت الحجاج بن الفكي إلى رهطه ممن يصوبون الرمي ويقترحون أفضل سبله وأكثرها إيلاماً وتسبيباً للصراخ فقال:

(يا أهل قحت ! “أنتم البطانة والعشيرة، والله لريحكم أطيب من ريح المسك الأزفر .. ثم التفت إلى المعارضين فقال (يا أعداء السودان وحلفاء الشيطان إن السلطان صاحب الحجة والبرهان أطال الله بقاءه نثر كنانته، فعجم عِيدانها، فَوجدني، بعد العطا، أَمرها عوداً وأصلبها مكسراً، فرماكم بي، وإني لأرى أَبصاراً طامحة، وأعناقاً متطاولة، ورؤوساً قد أينعت وحان قطافها، وإني لصاحبها، وكَأني أسمع الصراخ وأستمتع بالنحيب .. وأيم الله لألحونكم لحو العود، ولأقرعنكم قرع المروءة، ولأعصبنكم عصب السلمة ولأدوسنكم دوس العدو، ولأبلنكم بل المريسة، ولأدقنَّكم دق العيش، وليسمعنَّ صراخكم الكوزات في خدورهن، إني والله لا أحلق إلا فريت، ولا أعد إلا وفيت).

زر الذهاب إلى الأعلى