عادل عسوم يكتب: البارحونا وراحو

تقتحمني هذه الأغنية الماتعة كلما طالني ألم الفقد لأحد الأحباب الأعزاء، ولعلها أضحت أكثر لزوما منذ أن طالتنا -ومافتئت- غاشية الكوفيد 19، نسأل الله ان يرفع البلاء.
من يتملى كلمات هذه الأغنية؛ يوقن بأن شاعرها علي شبيكة؛ ألف كلماتها تحت سطوة حزن غامر على فقد عظيم!، ولا أعرف الكثير عن تفاصيل تأليف القصيدة ولاقصتها، لكن أخبرني صديق بأنها مرثية من علي شبيكة لوالدته رحمها الله.
وبرغم احتفائي -على الأغلب- بالقصائد الفصيحة في عوالم غنائنا السوداني الجميل، إلاّ إن هذه الأغنية قد استوقفتني ضمن أخريات، لإجادة انتقاء كلماتها، ولحسن توظيف معانيها، إضافة إلى اللحن القشيب الحزين الذي اختاره لها الراحل السني الضوي.
(وَاللّهْ وَحّدوا بينا).
استفتاحها هذا -بالرغم من غرابته بعض الشئ- إلا إن وقع كلمة (وحدوا بينا) تألفه الأذن بيسر ورفق، وهو غير مطروق في لهجة الوسط السوداني كثيرا.
أما الشطر الثاني من بيت الاستفتاح:
(البارحونا وراحوا)
فهو من الجمال بمكان، لقد أبدع الشاعر ووفق حقا وهو ينتقي مفردة (البارحونا) بدلا عن الفارقونا، إذ فيها وصلٌ بال(تبريح) نتاج الفراق، ثم إنها تتسق لغة وسياقا مع مفردة و(راحوا)، فكأن الحاء في الكلمتين يشي بوحيح يعبر عن بكاء الدواخل وحزنها.
شالوا من وادينا بهجتو وافراحو. لاغرو أن الوديان تكون مستودعا للأمواه والخضرة، فالمطر يتجمع في الوديان والتُرَد، والأنهار لاتجري إلا في أخفض البقاع من استواء الأرض، لذلك ترتهن بها البهجة، ويتغشاها الجمال الباعث للفرح، وفي ذلك قيل:
الجمال حيث الماء والخضرة والوجه الحسن.
وللنفس واديها الذي يختزن بهجة وأفراح الحراك الحياتي؛ شخوصا ومواقف وذكريات. اولئك المبارحون لدنيانا يأخذون معهم -من ودياننا- البهجة والفرح، لتحل مكانه سُدومُ الأحزان، ضبابا وأغبرة.
وراحت الأفراح
وقلبي عاش لجراحو.
الجراحات دوما تحول دون الإحساس بالمشاعر، وتبك الأنسنة بَكّاً فلا تجد لها منسربا إلى القلوب والوجدان، ولعل في ذلك تماهيٍ مع بيت الشعر العربي:
وما لجُرح بميتٍ إيلام.
ويحكي الشاعر عن نظرة حزينة كانت السبب في جراح قلبه، كلما طاف به خيال وصورة المبارح الحبيب:
نظرة باكية حزينة
كان وراها ودارو.
فالعيون منذ ازلها ومافتئت مكمن للحزن والألم، وما أقسى ذكرى الأعين الملأى بالدموع!
ويترى جمال القصيدة إلى أن يختمها الشاعر بطباق وجناس بديع وهو يقول:
والعيون لو رادو
مابعرفو يدارو
إنه ابداع لم اجده في جل نصوص الأغاني، فيه تبديل بديع في ترتيب احرف كلمتي (رادو) و (دارو).
ولم ينتهي سياق جمال هذه الأغنية الماتعة، فقد قيل بأن لحنها القشيب هذا وضعه الراحل السني الضوي -أصلا- لأغنية أخرى، عندما كان يعكف على التلحين؛ ولم يتفرغ للأداء الغنائي مع رفيقه الراحل ابو دية، وهي أغنية الراحل زيدان ابراهيم (معذرة)، التي كتب كلماتها الشاعر كباشي حسونة، ويقول مطلعها:
ياما بقيت حيران
ياما فشل ظني
وكل الحصل ياحبيبي
والله ما مني.
وهب السني الضوي هذا اللحن لكلمات معذرة؛ والتي كان يفترض أن يغنيها الراحل علي إبراهيم اللحو، لكن وقعت كلمات معذرة في يد الملحن أحمد زاهر، فلحنها باللحن الذي غناها به زيدان إبراهيم، إذ وجدها اللحو لا تتناسب مع أسلوب أدائه، ولكن بقي اللحن في ذاكرة -إبن نوري- الراحل السني الضوي، فاختاره لكلمات علي شبيكة (البارحونا وراحوا)، ليخرج هذا العمل الفني بكامل بهائه وبحزنه النبيل.
لعمري إن هذه الماتعة -الحزينة- تسوقني سوقا إلى عوالم لا يعلم مداها وفضاءاتها إلا الله، كلما استمعت لها من لدن ثنائي العاصمة رحمهما الله، ثم إني وجدت لها تسجيلا متفردا من برنامج اغاني واغاني، حيث يتشارك في ادائها عاصم البنا وأفراح عصام وعصام محمد نور، يومها بكى السني الضوي رحمه الله فأبكى كل من شاهد تلك الحلقة،أدى الشباب الأغنية بتناغم صوتي بديع، مابين فحولة صوت عاصم البنا وتنغيم الآخر ونداوته.
وقد قيل بأن المكان إن لم يؤنث لا يعول عليه.
إليكم كلمات الأغنية:
والله وحدو بينا
البارحونا وراحو
شالو من وادينا
بهجتو وافراحو
بي الكتير ياحليلوم
يا حليل الراحو
طال نواك وانا قلبي
باكي ليلو وصباحو
وفي الضياع والحسره
السنين كم راحو
وراحت الافراح
وقلبي عاش لي جراحو
مين يقول لي فؤادي
روح زي راحو
انا قلبي اتصبر
لمن تعب صبارو
نظرة باكيه حزينه
كان وراها ودارو
يوم رحلتا وشلتا
بهجتو وانوارو
لا ارتويت من عطفو
لي القليب الصادق
كنت نبعو الدارو
كنت ليهو حبيبو
وكنت اهلو ودارو
فضحنّي عيوني
وكشفن اسرارو
والعيون لو رادو
مابعرفو يدارو
العيون لو رادو
كيف يعرفو يدارو