خواطر رمضانية «7»: ظهر الفساد في البر والبحر

بقلم: عادل عسوم
إنها بعض خواطر عَنّت لي خلال مشاهدتي لمؤتمر القمة العالمي الأخير عن المناخ والتلوث البيئي.
أولى خواطري مرتهنة بآية كريمة أجدها ماثلة أمام ناظري كلما قرأت أو استمعت الى مفردة (التلوث البيئي والمناخي)، إنها الآية الكريمة الحادية والأربعون من سورة الروم :
{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}.
هذه الآية أحسبها تدل دلالة أكيدة على التلويث الذي يسببه الإنسان في بيئة ومناخ كوكبنا، إذ نظرة إلى الآية التي سبقتها في ذات السورة تجلعني أتبين أن الفساد المعني في ثنايا الآيتين ليست (المعاصي) التي ذكرتها متون العديد من تفاسير القرآن الكريم، إنما فساد آخر يرتهن بحراك البشر الحياتي تفاعلا مع مايحيط بهم من موجودات الأرض الحية والجامدة، والتي جعلها الله مذعنة للإنسان.
هذه هي الآية السابقة:
{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ۖ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَفْعَلُ مِن ذَٰلِكُم مِّن شَيْءٍ ۚ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ} 40
والمعلوم أن جل التفاسير -إن لم تكن كلها- ذكرت أن الفساد المذكور هو (المعاصي).
والآية الأسبق لهاتين الآيتين تتحدث عن (الربا) باعتباره كسبا (ملموسا) لأيدي الناس قبل أن يصبح معصية، وذلك يزيدني يقينا بأن الفساد المذكور ليس سوى إفساد (ملموس)، وليست المعاصي التي تكون معنوية على اجمالها.
وهناك آيتان دون هذه الآيات الكريمات تتحدثان عن ذات الإفساد الذي أعني وهو التلوث البيئي ونتائجه، وردتا في سورتي الرعد والأنبياء على التوالي وهما:
{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} الرعد41
{أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ} الأنبياء 44.
هاتان الآيتان تصوبان إلى التلوث البيئي الناتج عن (أيدي الناس)، حيث نجد السبب الأساس في انتقاص الأرض من اطرافها الازدياد التدريجي لمياه البحار على حساب اليابسة التي تشكل ثلث مساحة الأرض، ويتسبب التلويث البيئي الناتج عن الحراك البشري في الاحتباس الحراري المسبب بدوره لذوبان السلاسل الجليدية في قطبي الأرض، إضافة إلى التأثير السالب لمخلفات المصانع ونواتج التصنيع من غازات الأوزون وأول اوكسيد الكربون ومركبات الكبريت والنترات الضارة، وكذلك التغول على (رئات) الأرض ومتنفساتها من الغابات قطعا لأشجارها!
لقد قرأت في ثنايا خلاصات مؤتمر ريودي جانيرو السابق والذي انعقد لذات الأمر الذي ينعقد له المؤتمر الأخير، أنه رصدت أكثر من 7 مليون حالة وفاة على الأقل تحدث كل عام بسبب التعرض لتلوث الهواء!
لعمري إن كانت هذه الحالات هي الموثقة في مضابط الجهات الصحية؛ ياترى كم هو العدد الكلي للوفيات نتاج التلوث البيئي في كل المناحي؟!
الذي يرعب أن نسبة التلوث تزداد عاما بعد عام، وتثبت القياسات التي أجريت على ثقب الأوزون أنه مافتئ يتسع عاما بعد عام مما يزيد من كثافة الأشعة فوق البنفسجية الضارة الواصلة إلى سطح الأرض، وليس ببعيد عنا التغيرات المناخية التي نتج عنها انقطاع المطر لسنوات عديدة في مساحات شاسعة من دول افريقيا الشرقية، والذي نتج عنه من جفاف وقحط أهلك الشجر والحيوان، وظهرت آثاره جلية على أجساد البشر،
وفي المقابل هناك الفيضانات المدمرة التي أضرت بالعديد من دول آسيا الشرقية والجنوبية، ولاتستثني عن ذلك الأعاصير التي ازدادت وتيرتها خلافا لما كانت عليه خلال العقود الماضية.
وللعلم فقد ثبت أن الولايات المتحدة الأمريكية تُعد أكثر الدول تلويثا للبيئة، تدلل على ذلك الإحصاءات الآتية:
في الولايات المتحدة الأمريكية وحدها يوجد حوالي 120 مليون سيارة تستهلك 100 بليون جالون من الوقود سنوياً -أي حوالي 11 مليون جالون في الساعة الواحدة- وتستهلك الطائرات 15 بليون جالون سنوياً، وبالرغم من أنّ التلوّث الجوي الناتج عن الطائرات لا يتجاوز 1/25 من التلوث الناتج عن السيارات إلاّ أنها تفرغ سنوياً كميات كبيرة من الغازات السامّة في الجو يبلغ حوالي 70 بليون طن، علماً بأن الطائرات تستعمل غاز الكيروسين السائل الخالي من معدن الرصاص السام.
وبالرغم من هذه الإحصاءات الموثقة إذا بالرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب يفاجئ الدنيا باجمعها برفضه لمقررات قمم المناخ والتلوث البيئي السابقة!.
ولاغرو أن الأمثلة على أضرار التلويث البشري للبيئة كثيرة لاتحصى، منها على سبيل المثال لا الحصر ما حلّ في اليابان بين عامي 1949 و1968 عندما قام أحد المصانع بقذف مخلّفاته المحتوية على مادة الزئبق في البحر، وفي الماء تحوّلت مادة الزئبق السّامة أصلاً إلى ميثايل الزئبق الأشد سمّية، ثم انتقل هذا المركّب من الأسماك إلى الإنسان حيث أدى إلى تسمّم عشرات الآلاف من اليابانيين إضافةً إلى إصابة الكثير من المواليد بتشوهات عقلية وبدنية، ونتيجة لتلوّث مياه الشرب والتربة الزراعية والهواء بمخلّفات وُجدت مدفونة في مناجم مهجورة احتوت على عنصر الكادميوم أيضا أصيب الآلاف من اليابانيين بالمرض المعروف باسم إتاي-إتاي ( أوا-أوا) الذي يسبب آلاماً شديدة مزمنة في العظام، ومن أخطار هذا المرض أيضاً أنه يذيب المادة الكلسية في العظام مما يؤدي إلى اختفائها التدريجي أو إلى تقزّم وانحناء في الهيكل العظمي، وسبب هذا التلوث موت عدد غير معروف من الناس نتيجة توقّف نشاط الكلى وإبطال مناعة الجسم الطبيعية.
بالنسبة لنا في السودان فإننا لسنا بعيدون عن تأثير التلوث البيئي العالمي، فقد ظهر ذلك خلال فترة الثمانينات وكذلك التسعينات عندما شحت الأمطار في أواسط السودان، مما أدى الى الإضرار بالزراعة المطرية كثيرا، أما الآثار الأخرى فهناك مشكلة استخدام الزئبق في عمليات التعدين الأهلي للذهب، فالزئبق يعد من أكثر المعادن إضرارا بصحة الإنسان، وقد علمتُ من طبيب صديق لي يعمل في مستشفى الذرة بأنهم رصدوا تناميا مضطردا لنسبة الإصابة بالسرطان والفشل الكلوي بين الشباب العاملين في سوح التعدين الأهلي، ظهر لهم ذلك من خلال مضابط الحالات التي تعالَج في مستشفى الذرة.
وهناك تلوث آخر يتهددنا دون ان ننتبه له، إنه التلوث بمادة الديوكسين Dioxin الضارة، واسمها الكيميائي هو 8،7،3،2 رباعي كلورو داي بنزو بارا ديوكسين، وللعلم فإن هذا المركب يكفي جزء واحد من المليون منه (1 ppm) للإضرار بصحة الإنسان!، وبالرغم من أن التلوث بالديوكسين يتكاثف في الدول ذات البراكين النشطة إلا إننا في السودان لاننتبه لمصدر قاتل للديوكسين ألا وهي (الكُوَش) التي تحرق دون رقيب بجوار الأماكن السكنية، وذلك لكثافة كم الأكياس البلاستيكية وقناني واوعية البلاستيك الفارغة التي تحرق.
وكذلك فإن الديوكسينات موجودة بكثافة في المبيدات الحشرية وبخاخات تعطير الهواء، فلنحذر منها ونحتاط.
هناك أيضا خطر زيوت القلي الذي يعاد استعماله لمرات عديدة، لكون الإصابة بالسرطان نتاج ذلك أكيدة، ودوننا كم الإصابة بالسرطانات التي ظلت تتصاعد عاما بعد عام في مختلف ولايات السودان.
لدي يقين أن التلويث البشري للبيئة يعد أكثر اضرارا بنا كبشر عن (كسب أيدينا) من حربين عالميتين حصدتا الملايين من البشر، وحادثة واحدة مثل إنفجار مصنع مدينة بوبال الهندية المملوك لشركة يونيون كاربايد الأمريكية ليدلل على ضخامة ضرر التلويث البيئي، وقد حدث ذلك في عام 1984 عندما قضى وأصيب اكثر من مليون هندي لدى استنشاقهم مادة ميثيل إيزوسيانايد القاتلة.
اختم بالقول بأن أمثال هذه القمم الدولية ينبغي ان تكون قراراتها ملزمة لكل الدول بلا إستثناء، وارى بأن يعزز إصدارها لتكون تحت البند السابع من مواثيق الأمم المتحدة حتى يتسنى للبشرية أن تعيش حياة أفضل.
وليت البشرية كلها تتوقف بين يدي خواتيم الآية الكريمة التي ذكرتها ابتدارا ،حيث يذكرنا خالق الكون:
{لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}!
(خاص بمتاريس)