آراء

خواطر رمضانية «16»: ما بين الانشراح والمعراج

بقلم: عادل عسوم

صلى عليك الله يانبي الهدىماهبت النسائم وما ناحت على الأيك الحمائم.

هذه النفس البشرية نفخٌ من روح الله جل في علاه، ومافتئ البشر موصولون بالأرض بحبلين:
1- حبلٌ مجدول من عناصرها، إذ خُلقنا من طينها.
2- وحبلٌ من الجاذبية الأرضية.
ولكن يبقى للأنفس مرتقى تسلكه متسامية وقد وهبت نورا تمشي به وترتقي.

وكان لاكتمال عناصر الطين وكمالات صَقْلِهِ بيانٌ في أكمل الخلق خَلقا وخُلُقا، محمدٌ صلوات الله وسلامه عليه وآله، وبين يدي ذلك تبهرنا أنواره ساريا على أديم الأرض، ثم عارجا إلى السماوات العُلى، جواده البراق ورفيقة الروح الأمين.

فإن كان الإسراء والمعراج بالروح؛ فإنه كمالٌ بشري، فكيف يكون حاله إن كان بالروح والجسد معا (وهو الذي كان)؟!.

كم ترتاح نفسي إلى سورة الانشراح يا أحباب…
هذه السورة المكية من سُور المفصَّل القصير، والتي يبلغُ عدد آياتها ثمانِ آياتٍ كريمات:
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6) فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8).

ورد في سبب نزول هذه السورة، عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما قال إن النبي صلى الله عليه وسلم قال:”سَأَلْتُ ربِّي مسألةً وودِدْتُ أَنِّي لمْ أَسْأَلْهُ، قُلْتُ: يا رَبِّ! كانَتْ قَبلي رسلٌ منهُمْ مَنْ سَخَّرْتَ لهُ الرِّياحَ، ومِنْهُمْ مَنْ كان يُحيي المَوْتَى، وكلمْتُ موسى قال: أَلمْ أَجِدْكَ يتيمًا فَآوَيْتُكَ؟ ألمْ أَجِدْكَ ضالًا فَهَدَيْتُكَ؟ ألمْ أَجِدْكَ عَائِلًا فَأَغْنَيْتُكَ؟ أَلمْ أَشْرَحْ لكَ صَدْرَكَ، ووضَعْتُ عَنْكَ وِزْرَكَ؟ قال: فقُلْتُ بلى يارَبُّ؛ فَوَدِدْتُ أنْ لمْ أَسْأَلْهُ”
وهو حديث صحيح عند الألباني.

لقد أجمع أهل التفسير وكذلك أهل السيرة النبوية على أن حادثة شق صدر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم من ارهاصات النبوة، وقد قال جلهم بأن حادثة الشق تدل على تطهيره من حظ الشيطان عصمة له من الشرور والآثام وعبادة غير الله، فلا يحل في قلبه شيء إلا التوحيد، وبالفعل لم يقترف إثماً، ولم يسجد لصنم بالرغم من شيوع ذلك في قومه صلى الله عليه وسلم.

أقول وبالله التوفيق:
حادثة شق صدر نبينا صلى الله عليه وسلم كانت (مادية)، ومنذ أول عهد لي بها إنداح في خاطري تفسير لها بكون المآل والغاية منها أمر (ملموس) وليس (محسوس) كما تقول التفاسير.

ولكي أوصل مرادي علينا أن نتوقف أمام وصف نبينا صلى الله عليه وآله وسلم لهيئة جبريل عليه السلام عندما رآه، لعمري إنه وصفٌ ينبي عن قدرة خارقة للرؤية لدى نبينا صلى الله عليه وآله وسلم!.

قالت عائشة رضي الله عنها إنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إنما هو جبريل لم أره على صورته التي خُلق عليها غير هاتين المرتين رأيته منهبطًا من السماء سادًّا عِظَم خِلْقِه ما بين السماء والأرض).

وذات القدرة على الإبصار وهبها الله لنبينا عند عروجه إلى السموات العُلى، وتظهر جليا عند توقف جبريل عليه السلام عند نقطة بعينها -دون سدرة المنتهى- ليقول لنبينا صلوات الله وسلامه عليه بأنه لا قدرة له على التقدم والمواصلة فوق تلك النقطة!.

ويتقدم الحبيب وحيداً، ويرى سدرة المنتهى بأم عينيه الشريفتين، وهي رؤية لاتتأتّى لعيني بشر سوى رسول الله.
بربكم ألا يحتاج كل ذلك إلى تهيئة قَبْليّة (مادية) لنبينا صلى الله عليه وسلم؟!.

لقد رأى نبينا صلى الله عليه وسلم سدرة المنتهى ووصفها كما جاء في سورة النجم:
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
{إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى ، مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} النجم 17،16.
فالبصر ما زاغ ولا طغى، وماذاك إلا لأن الله قد هيأه -من قبل- لذلك.
إنها لتهيئة مادية هذه التي مكّنت الحبيب محمد صلوات الله وسلامه عليه وآله من الرؤية والاحتمال والإدراك، وكل ذلك فوق طاقة البشر.

فالعين البشرية محدودة القدرة على الرؤية مهما كانت حدة الإبصار فيها، والرؤية لا تتم الاّ بعد سقوط الضوء من مصدر ما على جسم ثم ينعكس إلى العين لتتم الرؤية، والضوء في ذاته عبارة عن أمواج الكترومغناطيسية، قوامها الإليكترونات الخارجية التي تدور حول أنوية الذرات، وتسير هذه الأمواج في مجالات مختلفة من الأطوال الموجية المقاسة بوحدة تسمى (النانو ميتر nm)،
والضوء -الذي خلق لنا الله القدرة على رؤيته- ينحصر في طول موجي (من 380 الى 780 نانوميتر)، وتنتهي قدرتنا كبشر على الإبصار في المدى الأطول أو الأقصر من الطول الموجي المذكور أعلاه.

وفي حالة زيادة الطول الموجي عن ذلك يتحول الضوء من مرئي الى أشعة تحت حمراء غير مرئية، ثم إلى أشعة مايكروويف، ثم الى أشعة راديوويف، وهي ذات طول موجي يزيد عن 3 سنتمتر.

وفي حالة انقاصنا للطول الموجي، تنعدم – أيضا- قدرتنا على الإبصار، إذ يتحول الضوء من مرئي إلى أشعة فوق بنفسجية قريبة وبعيدة (غير مرئية)، ثم أشعة سينية، وأخيرا أشعة جاما بمجال طول موجة يقل عن 0.01 نانوميتر، وتكون طبيعة الانتقالات المحددة في المادة في الأشعة فوق البنفسجية القريبة والبعيدة؛ هي ذات الالكترونات الخارجية لذرة أو جزيء المادة كما هو في الطيف المرئي، ولكن بمجالات طاقة تختلف عن الضوء المرئي.

ثم تكون الانتقالات في حالة الأشعة السينية من الإلكترونيات الداخلية لذرة المادة، وأخيرا في حالة أشعة جاما تتحول الانتقالات الى انتقالات نووية.

وبذلك فإن العين البشرية ترى في حدود طول موجي محدد للضوء وهو (من 380 الى 780 نانوميتر) …

وقد أصطلح على تسمية هذه المساحة من الضوء ب(الضوء المرئي)، ويعني ذلك أن العين البشرية لا يمكنها الرؤية فيما عدا هذا الطول الموجي، بالرغم من وجود الضوء!
فالضوء -دون وفوق- ذاك الطول الموجي المذكور يكون (موجودا)، لكنه يكون في صور أخرى.

ولنسأل:
هل خلق الله عينا لمخلوق آخر تستطيع الرؤية خلال طول موجي أعلى أو أقل عن المدى المذكور أعلاه؟
نعم هناك أعين أخرى.

فقد ثبت علميا أن عين النحلة تحتمل أشعة ذات طول موجي يتراوح مابين( 10 الى 200 نانوميتر )، وهي الاشعة المسماة بـ(الأشعة فوق البنفسجية البعيدة) للرؤية، والمعلوم أن الطول الموجي للضوء كلما كان أقصر؛ فإن الرؤيا تتم بشكل اسرع مما هو في حالة الضوء المرئي ،وبذلك فان النحلة تستطيع أن ترى الاشياء بدقة أكثر، وبسرعة أكبر من الأنسان!.

ولعل الحكمة الإلهية من ذلك أن المساحات التي تطير فيها النحلة أصغر أبعادا، وأكثف موجودات. فهناك تشكيلات الزهور العديدة وأجزاء النباتات الأخرى، وهي تحتاج إلى سرعة الرؤية وتحديد الإتجاه أثناء طيرانها في تلك الأمكنة الضيقة.

وبذلك فإن النحلة إن عُرض لها مقطع متحرك (فيديو)، نجدها تستطيع مشاهدة كل لقطات الصور المتحركة كصور ثابتة!، وللعلم فإن صور الفيديو المتحركة على عمومها ليست سوى صور ثابتة، لكنها متتالية، ونراها نحن صورا متحركة نسبة لطول الموجة التي نرى من خلالها نحن كبشر، بينما تستطيع النحلة رؤية تلك الصور (صورة، صورة)، وذلك لقدرتها على النظر من خلال طول موجي مختلف عنا.

فالصور التي تنقل إلى العين الرائية إن كانت في مدى موجي أقصر -كما في حالة الأشعة فوق البنفسجية (كمثال النحلة)- يكون فيها زخم كبير من التفاصيل، بحيث تحتاج إلى عمليات حسابية ضخمة في المخ، كي تتمكن العين من رؤيتها وتمييزها، وقد وجد العلماء أن النحلة تقوم بمليون مليون – أي مليار- عملية حسابية في الثانية الواحدة كي تتمكن من معرفة كنه لَقْطَة نظر واحدة!!.

وهناك أيضا دراسات قامت بها شركة كوداك على عين الديك، وجدوا أن الطول الموجي للشعاع الضوئي الذي يمكن لعين الديك استقباله والتعامل معه هو مابين (200 الى 380 نانوميتر)، وهي الأشعة الفوق بنفسجية (القريبة) إلى الضوء المرئي، ويعني ذلك أن الديك يرى أسرع من الإنسان، ولكن أبطأ من النحلة.

وقد ورد في مجلة (باييت مقازين) عدد 1992 أكتوبر، أنه أجريت دراسات عديدة على عين الحمار، فوجدوا في تقنية الإبصار لديه قدرة على الإستقبال والتعامل مع الأطوال الموجية الأطول التي تنحصر ما بين (0.780 و400 أنجشتروم)، وهو المدى الموجي الذي يميز الأشعة تحت الحمراء، حيث تكون الانتقالات اهتزازية ودورانية في المادة.

ويعني ذلك أن الحمار بطئ جدا في القدرة على رؤية الأشياء دون الإنسان، لكنه يمكنه الرؤية في الظلام الدامس!.

قد يقول قائل اذن لماذا يقول الله جل وعلا في محكم تنزيله:
{لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ}؟! التين 4.
لماذا لم يخلق الله العين البشرية قادرة على الرؤية من خلال كامل الضوء (مرئيّهِ، وغير مَرئيّهِ)؟!.
ولماذا تتفوق عين النحلة وعين الديك على العين البشرية؟!
للإجابة على هذه الأسئلة أقول:

المعلوم أن تمام الأمر وجودة الشئ لا يرتبط بالفوت في صفة أو مَلكة ما بقدر ارتباطه بتناسق كامل المَلَكات أوالصفات، فالـ(خفّاش) كمثال يستطيع السمع في درجة دون درجة الصوت المسموع، فالصوت أيضا مثل الضوء له مجالات (فوق) و(أسفل) المدى الصوتي الذي تسمعه الأذن البشرية.

لنتخيل أن الله جعل للأذن البشرية القدرة على سماع الأصوات الأدني عن قدرة الإنسان للسمع، يا ترى كيف يكون حال الإنسان إن أعطاه الله القدرة على السمع مثل الخفاش مثلا؟.

بالقطع لن يستطيع أحد منّا النوم ولا الراحة بسبب الضجيج العجيب وغير المحتمل الذي ستلتقطه آذاننا!.

ولأن قدر الله لنا أن يتسع مجال الرؤية لدينا لنرى من خلال الأشعة فوق البنفسجية أو تحت الحمراء؛ تخيلوا كم، وكثافة الصور، وحراك الأشياء أمام أعيننا ونحن نصوب إلى واقع محدود يتصل بأكلنا وشربنا وسياقات حياتنا المعلومة؟!…
الا يعدُّ ذلك (طفرة) لن تفيد الانسان بقدر ما تضره؟!.

فالإنسان يحتاج إلى مجال رؤية ومجال ذوق ومجال سمع ومجال شم ومجال حس ومجال تفكير؛ يتناسب مع الذي بين يديه مما يتصل ويفيد حياته، فالكلٌّ ميسّرٌ ِلما خُلِق له في خلقه وقدراته.

كما أسلفت فقد أجمع علماء التفسير على أن الحبيب المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم رأى عياناً جبريل عليه السلام مرّتان، وأنه أيضا راى عياناً سدرة المنتهى.

ففي الحديث الثابت في صحيح البخاري أن عائشة رضي الله عنها قالت في تفسير الآيتين:
{وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ} التكوير23، ثم الآية {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} النجم 13 قالت رضي الله عنها:
أنا أول هذه الأمة سأل عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنما هو جبريل لم أره على صورته التي خلق عليها غير هاتين المرتين، رأيته منهبطاً من السماء ساداً عِظَمُ خلقه ما بين السماء والأرض.

وقد حدثت الرؤية الأولى من بعد بدء الوحي عندما كان يعتكف في أجياد، وقد وصف الرسول صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام في رواية أخرى بأنه له ستمائة جناح، وكان من الضخامة بحيث أنه قد سد كامل خط الأفق بجسمه !!.

والرؤية الثانية لجبريل عليه السلام -على هيئته الأصلية- كان عند سدرة المنتهى، عندما عُرِجَ به صلى الله عليه وسلم الى السماء!…
ثم أجمع العلماء ايضا بأن الرسول صلى الله عليه وسلم رأى عيانا سدرة المنتهى التي عندها جنة المأوى.

وقد ورد في وصف جبريل عليه السلام وفي وصف سدرة المنتهى أوصافاً يتأكد من خلالها عجز العين البشرية بتفاصيلها التشريحية الحالية عن أستيعاب كامل صورتي جبريل عليه السلام -على هيئته الحقيقية- وصورة سدرة المنتهى.

الخلاصة:
أقول والله أعلم بأن الله أعطى لعيني رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم وعقله قدرات اضافية؛ بحيث أمكن لعينيه الشريفتين استقبال (كامل) الطول الموجي المميز للأشعة فوق البنفسجية بعيدها وقريبها.

وقدر الله كذلك لعقله صلى الله عليه وسلم أن يتعامل مع سرعة ذلك الطول الموجي القصير جدا احاطة بكل التفاصيل بتوفيق الله، ولنا هنا أن نتوقف بين يدي الآية الكريمة {مازاغ البصر وما طغى} مستصحبين حادثة شق صدر رسولنا صلى الله عليه وسلم في صباه، عندما كان يرعى الغنم في ديار بني سعد.

وفي الخاطر والبال ما نقلته لنا السنة المطهرة والسيرة المشرفة عن الكثير من التمييز الرباني لرسولنا عن باقي البشر في القدرات والحواس، فهو صلى الله عليه وسلم أفضل الخلق خِلْقَةً وخُلُقا.

والله قد قرن البصر والعقل بالقلب – وإن كان المعنى هنا مجازيا- حيث قال جل في علاه:
{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى القُلُوبُ الَتِي فِي الصُّدُورِ} الحج 46.

هنا يكمن الربط ما بين الذي ذكرته ارتهانا بشق صدره الشريف، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل صلى الله عليه وسلم وهو يلعب مع الغلمانِ، فأخذَه فصرَعه، فشَقَّ عن قلبه، فاستخرج القلبَ، فاستخرج منه عَلَقَةً، فقال: هذا حظُّ الشيطان منك، ثم غسله في طَسْت من ذهب بماء زمزم، ثم لأَمَه، ثم أعاده في مكانه، وجاء الغلمان يسعَون إلى أمه -يعني ظِئرَه– فقالوا: إن محمدًا قد قُتل، فاستقبلوه وهو مُنتَقع اللون. قال أنس: وقد كنت أرى أثر ذلك المخيط في صدره).

صلى عليك الله يانبي الهدى ما هبت النسائم وما ناحت على الأيك الحمائم.

[email protected]

زر الذهاب إلى الأعلى