خواطر رمضانية «22»: الأحرُفُ لا تهوى السكون

بقلم: عادل عسوم

إنها لعمري للمد -فتحا وكسرا وضمّا- أهوى منها إلى السكون، فمن قال (سكّن تسلم)؛ يسلك إلى سلامة -يراها- كوة ضيقة، فلماذا نلوذ بالكوى والأبواب مشرعة؟!…

الفتحة تتمخض عن أَلِفٍ قامة…
والكسرة تلد ياء ما أجملها…
والضمة مشروعٌ قاصدٌ لِواوٍ فَتِي…
فمن قال إنّ الأحرف تهوى السكون؟!.

استوقفني احتفاء الله جل في علاه بالـ(قلم)!
لقد ابتدر بذكره تنزيل القرآن الكريم، وأنزله على مَنْ؟! إنه على نبي أُمّي وأمّة أميّة!!
فلماذا ياترى كان الإبتدار بالقلم؟!…

لنسافر يا أحباب في بلاد الله سبراً لأغوار الشعوب، سنجد الفقر والمرض دوما يقترنان بالجهل، بل يكون الجهل أسبق منهما،
إنه الجهل بالحروف التي تشكل المعبر الحقيقي إلى العلم والمعرفة، أليس في ذلك شاهد وتكريم لهذا القلم دون غيره من الأدوات التي شرع الإنسان في استعمالها خلال حراكه الحياتي منذ وجوده؟!.

فالسيف والحربة والسهم والشراك والشباك كلها ادوات تسهم في جلب طعام يأمن الانسان به من جوع، فلماذا كان الاحتفاء بالقلم دون سواه من الأدوات؟!
إنه أداة تفرخ الحروف، ولكن ماذا تفعل الحروف؟!…
بالحروف يتعلم الانسان مالم يعلم (بنص آية العلق الكريمة)!
وما لم يعلم هذه عوالم وفضاءات رحيبة، عوالم يضج بها حراك الحياة، فهل يعقل أن يقول قائل بأن الأحرف تهوى السكون؟!.

لقد قُدّر لي أن أكون في دولة تشيكوسلوفاكيا خلال الأحداث التي أدت الى انفصال الدولة الى التشيك وسلوفاكيا، خرجت إلى الطريق العام فوجدت الناس يتحلّقون حول أحد المتحدثين المعروفين بالدعوة إلى الانفصال.

الرجل عمره تعدى السبعين، وهو كاتب وروائي معروف بدعوته إلى انفصال سلوفاكيا، وقد قال يومها مقولة لم يزل صوته الأجش يتردد بها في أذني، قال:
(اللغة هي أهم عنصر لتكوين القومية والدولة، وليس العرق أو الدين)!!!.

لم أستطع قبول ذلك في البدء!
فالذي كان مستقراً في حسباني حينها أن العِرق أو الدين هما اهم العناصر في تكوين القومية أو الدولة…
لكنني عندما قلبت بصري في جل بؤر الدعوة الى انفصال في فجاج الأرض، فماذا وجدت؟!
قد يكون العرق هو الذي يبين على السطح، الاّ أن اللغة تبقى العنصر الحاسم، إمّا لتغذية أوار الانفصال أو اخماد ناره.

وقد فسر لي ذلك الجهد الكبير الذي مارسته قوميات لطمس لغات اثنيات أخرى دون التعويل كثيرا على محاربة الدين والثقافة!
فمن قال ان الأحرف تهوى السكون؟!.

وتبقى اللغة بوتقة تنصهر فيها أعراق وأديان وثقافات.. وتبقى كذلك الحاضنة لكل بذور الحراك المجتمعي نحو الغايات والمآلات القاصدة، فكم من دولٍ أضحت اللغة فيها وعاء جمع الوجوه على اختلاف سحناتها وألوانها وأديانها وثقافاتها، فأصبح الولاء لعلم واحد يرفرف فوق السارية.

هذه أمريكا بكل عنفوانها هضمت الأعراق على كثرتها، وإذ هي برغم وشائج الارتباط بالأصول تجد الفرد منهم ينتصب ويقول في عزة وشموخ (Iam american)!.

وتلك البرازيل لا تكاد تجد فردا يشبه الآخر في تقاطيعه، وبالتالي في مصروره الأصل، الاّ أنهم انصهروا في بوتقة اللغة والحدود الجغرافية، فخرجوا على الناس بالسامبا، وخرج غيرهم بالفلامنجو، وتراضى الناس ببعضهم تحت مظلة اللغة، فاضحى اللبناني الأصل رئيسا في دولة وغير ذلك كثير!.

ذاك اقليم الباسك في أسبانيا وفي فرنسا جمعت بينهم لغة الباسك وهم قوميات عديدة، وأقليم كويبك في كندا الذي يتحدث مواطنوه الفرنسية وفيهم جل أعراق بني آدم ان لم يكن كلها.

وهناك ما يصطلح على تسميته بعرقية التاميل في سريلانكا، وهم شعوب من أصول عديدة جمعت بينهم اللغة التاميلية!…
وهناك أيضا أقليم كيرلا في الهند والذي يتحدث أغلب سكانه لغة الماليالم وهم فسيفساء لقبائل أكثر من مائة عرقية يعتنقون جل أديان العالم.

زرت هذا الاقليم ونزلت في منطقة تسمى (ترافاندروم) – الفاء تنطق معطشة – وقد لفت نظري مدى الترابط الاجتماعي الذي اضفته اللغة الواحدة عليهم، تتداخل الأسر المسلمة والمسيحية والهندوسية فيما بينها بمودة ومحبة بائنة دون غيرها من الأقاليم الهندية!.

وأعود للراحل حاج الماحي رحمه الله وأولاده، كم لهذا الرجل من أفضال على أهلنا في الشمال يااحباب!.

سألت جدتي أيام طفولتي وهي تتدارس-وهي الأمية- كل تفاصيل الحج مع قريب لي، فتسبقه بذكر الأمكنة والنُسُك في سوح الحج في عرفات ومنى ومكة المكرمة!
– حبوبتي انتي الورّاك حاجات الحج دي كللللها منو؟!
– أي نان مديح ولاد حاج الماحي دا انتا قايلو كلام ساكت؟!.

وكذاك صفات الحبيب محمد صلوات الله وسلامه عليه، وتفاصيل الشعائر، وقيم الأخلاق، ومناطات الخير والشر وغير ذلك كثير، وإني لموقن بأننا إن استثنينا (مدحة التمساح) فلن نجد شيئا يذكر من مديحهم يتعارض مع أسس العقيدة ومسلمات الدين، اللهم ارحمه ومن مضى من ذريته.

إن الاحرف لاتهوى السكون…
لقد ربطت بيني وبين ابن (السنيقال) عبدالمجيد تيون وشائج صداقة حميمة، كان يدرس اللغة العربية في المعهد الخاص بالناطقين بغيرها داخل حرم جامعة أم القرى حيث أدرس فيها بكلية العلوم التطبيقية والهندسية.

وأعتاد مجيد وفي معيته سنيقاليون آخرون التواجد دوما خلال لقاءاتنا السودانية، وجبتهم الرئيسة أضحت (صحن أم رقيقة بكسرة)، ورمضانهم استحال سودانيا معتقا بطعم الآبري الأحمر.

كانوا جميعا ممشوقو القوام وأنيقي قسمات الوجه بلا دشانة ولا قبح، وبالطبع كانت لغتهم الأساس لغة مستعمرهم الفرنسي.

عبدالمجيد تخرّج في المعهد بدرجة ممتاز مع مرتبة الشرف الأولى، ثم استوعبته الجامعة في كلية اللغة العربية، وتخرج فيها لاحقا، وتخرجت كذلك في كليتي، وافترقنا باجسادنا لكننا ظللنا متواصلين بريدا ومهاتفة.

وخلال بداية التسعينات ابتعثتني الشركة التي أعمل بها -في المملكة العربية السعودية- إلى مدينة نيس الفرنسية، فأخبرت صديقي عبد المجيد تيون الذي يشغل وظيفة مرموقة في وزارة التعليم العالي السنيقالية.

وتحت إلحاح الرجل عدلت من خط رحلة سفري لأزوره في مدينة داكار، فالتقاني وفي معيته زوجُه سليمة وبنتاه عائشة وسارة وابنه (عادل)، بادرني عادل الذي لم يبلغ السابعة بعد قائلا:
– السلام عليك ياعمي عادل الذي أسماني والدي بإسمه، فرددت عليه السلام، وحملته وقبلته دامعة عيناي، ثم طوّف بي صديقي مجيد في طرقات العاصمة على متن عربته البيجو 405.

وزرت جامعة داكار والعديد من المدارس والمعاهد، تلمست فيها جليا جهودا كبيرة لنشر اللغة العربية، قال لي مجيد:
باذن الله ياصديقي عادل ستكون السنيقال دولة ناطقة باللغة العربية عوضا عن الفرنسية خلال عقدين من الزمان لا أكثر.

وقد استمعت بعد ذلك إلى خبر في ثنايا نشرة أخبار التاسعة على قناة الجزيرة مفاده أن السنقال تزمع تدريس المنهج الإسلامي العربي في كل المدارس الإبتدائية على نطاق الدولة، وذلك بعد أن تبين لوزارة التعليم عزوف الناس عن المدارس النظامية، وتفضيلهم للمدارس العربية الخاصة المنتشرة في عاصمة الدولة ومدنها الرئيسة.

وعندما هاتفت صديقي مجيد بعد ذلك انبأني بأن الحكومة خلصت لتوها من دراسة ميدانية ظهر فيها انحسار مد اللغة الفرنسية أمام العربية في السنيقال بنسبة 1/26!!!.

رحم الله والدي فقد كان يقيّم من يلتقيه بسلامة لغته، فإن سلمت لغة المتحدث أتلمس في وجهه بشرا وبشاشة وحرصا منه على السماع له، وقد اعتدت التنقل بين قنوات التلفاز فأركن إلى الذي تتلقى أذني لغته بقبول، فاللغة يا أحباب جسر تعبر عليه الأفكار والمشاعر والمرادات.

ذات الحروف ولجت إلى سوح أهلنا الأقباط في مصر في معية الصحابي الجليل عمرو بن العاص، فلم تركن إلى سكون، بل طال حراكها لغة القوم فاختارتها الألسنة برغم بقائهم على دينهم!.

أي فوت فوق ذاك ياأحباب؟!
وأولئك أهلنا الجزائريون، جثمت على صدورهم اللغة الفرنسية مئة سنين وازدادت تسعا، وعندما خرج الفرنسيون بقي اللسان منهم متفرنسا أعواما، لكنها -أي ذات الأحرف- لم تهو سكونا، بل انداحت حراكا في الناس وارتقت كل يوم الى سوح العروبة وفضاءاتها، عروبة تكنس في طريقها كل مظاهر الفرنسة أحرفا وأخلاقا.

لقد قدّر لي أن أعيش بعضا من طفولتي في دولة جنوب السودان قبل الانفصال، أتقنت خلالها (عربي جوبا)، ثم عدت خلال الثمانينات، فإذا بي أجد تلك اللهجة ترتقي إلى ميس الفصاحة عاما بعد عام، وذاك لعمري طبع في العربية إذ تيمم اللهجات اضطرادا إلى فصاحة محروسة بكتاب الله الذي كتب له الله الحفظ إلى أن يرث الأرض ومن عليها.

أما حال الانجليزية فهو بغير ذلك
هاهي تفترق الى انجليزيتين!
انجليزية في أمريكا وأخرى لدى أهلها في انجلترا…
ويذهب البعض الى أنهما ستصبحان يوما لغتان مختلفتان!.
وتبقى الأحرف (العربية) لا تهوى السكون.

[email protected]

زر الذهاب إلى الأعلى