د.مزمل أبو القاسم يكتب: حل الوطني.. إعدام ميت

*لو تعاملنا بظاهر أشهر شعارات ثورة الشعب (حرية سلام وعدالة) لجاهرنا برفض قرار حل حزب المؤتمر الوطني، ولاستنكرنا مصادرة دُوره ونزع ممتلكاته، لأن القرار ينتهك – في ظاهره – ذلك الشعار الخالد ويزدريه بنهجٍ لا يليق بثورة الحرية، لكن الواقع يؤكد أن الحزب استحق الحل، واستوجب مصادرة ممتلكاته، مثلما استحق فاسدوه الملاحقة والمحاسبة.
*لا أعرف مكوناً سياسياً اكتنز لنفسه كراهيةً وغبناً في نفوس غالب أهل السودان مثلما فعل المؤتمر الوطني، الذي استأثر بالسلطة والثروة على مدى أكثر من عشرين عاماً، قبل أن يرمي بفتاتهما لأحزابٍ هزيلة، ومكوناتٍ عليلة، أراد أن يجمِّل بها قبحه، وينسب بشراكته لها فضلاً لا يستحقه، كي يزعم أنه تواضع وأبى الانفراد بالسلطة.
*السلطة التي نعنيها لا تتعلق بالشق التنفيذي، الذي يدعي المؤتمر الوطني أنه اكتفى منه بحصةٍ لا تتجاوز (42 %)، بل تتعداه إلى أغلبيةٍ ميكانيكيةٍ في السلطة التشريعية، وتمتد لهيمنةٍ مطلقة على كل مفاصل السلطة القضائية وتوابعها العدلية، وانفرادٍ تامٍ بكل المواقع القيادية في الخدمة المدنية، وسيطرة كاملة على الأجهزة الأمنية والمال العام.
*في خواتيم عمره الزاخر بالإخفاقات انكمش دور الحزب نفسه، ليسلم قياده إلى الرئيس المخلوع، الذي انفرد بالقرار، واستأثر بالأمر، محولاً إياه إلى ملكٍ عضوض، مصيره بيد فرد، هيمن على البلاد بمعيّة ثلة من التابعين المطيعين، ممن طاب لهم أن يتقلبوا في نعيم المناصب، مستبدلين حزبهم وحركتهم بمن انتقاهم لضعفهم وخنوعهم، كي يمكنوه من حكم البلاد لدورةٍ رئاسية جديدة، ينتهك بها دستور البلاد قبل دستور الحزب المُغيَّب.
*كان مصير كل من عارض ذلك التوجه الأرعن الإقصاء والتهميش حتى في مؤسسات الحزب الهرِم، ومنهم بروف غندور، الذي أبعد عن وزارة الخارجية بطريقةٍ مهينةٍ، لمجرد أنه انتقد عدم وفاء بنك السودان بمستحقات سفارات السودان بالخارج.
*لاحقاً طال التهميش الوزارة السيادية ذاتها، بنقل معظم صلاحياتها إلى القصر، أو فلنقل بيت الضيافة، لتصبح مجرد مبنى، لا يملك من أمره شيئاً.
*فعلياً تعرض المؤتمر الوطني للحل و(البل) بأمر رئيسه المخلوع، الذي تبرأ في خواتيم عهده من الحزب، وفرَّ منه فرار الصحيح من الأجرب، ليلوذ بمؤسسته العسكرية وأجهزته الأمنية، توهماً منه بأنهما سيعصمانه من السقوط.
*لم يتبق من المؤتمر الوطني إلا اسمه ورسمه في خواتيم العهد البائد، وقد صرَّح أمينه السياسي السابق عبد الرحمن الخضر بأنهم أجروا إحصائية لتبيان عدد الإسلاميين المنتمين للحزب، فانحصرت نسبتهم في 14 % فقط، بعد أن جمع الموقوذة والمتردية والنطيحة، وجموع الساعين إلى الجمع بين السلطة والمال.
*النسبة توضح أن الحزب لم يعد ممثلاً للحركة الإسلامية، وبالتالي لا يوجد ما يبرر تباكي الإسلاميين على حله.
*حزبٌ علاه الفساد ونخر جسده.. رضع من ثدي الدولة حتى أفقرها، وغُذِّي بالحرام، فبنى دُورَه واكترى أثاثاتها ومشتملاتها واقتنى سياراته من المال العام، وأفسد الحياة السياسية، واستخدم آلته الأمنية الغاشمة للبطش بالمعارضين، وتغييب الحريات العامة، ودمر الخدمة المدنية، وأدخل البلاد في أزمةٍ اقتصاديةٍ طاحنة، وعرضها لعزلة دولية غير مسبوقة، قبل أن ينتهي به الحال إلى هيكلٍ فارغٍ، مصيره بيد ديكتاتورٍ مستبد، أعمت شهوة السلطة عينيه، حتى ذهب ملكه بأمر الشعب.
*لو تدبر المعترضون على القرار جثة حزبهم، وتفرسوا محصلته البائسة، وإرثه الهزيل لما تباكوا عليه، ولتبرأوا منه قبل غيرهم، لأنه مات وشبع موتاً قبل أن يتعرض إلى الحل بما يشبه (إعدام ميت).. ودَّع الفانية متبوعاً بلعنات الملايين.