عبود عبدالرحيم يكتب: ثم ماذا بعد 14 و 19 ديسمبر ؟

لم أجد في تاريخ الثورات الأخيرة التي اجتاحت بعض دول الوطن العربي شعباً يتباهى بكثرة التأييد وحشد المناصرين بمثل ما يحدث في السودان الآن ، ليست من فائدة اقتصادية ولا اجتماعية لإظهار حجم التأييد ما لم يكن لذلك تأثير إيجابي على مستوى حياة الفرد وإحساسه بنتائج التغيير الذي أسقط البشير بعد حوالي 30 عاماً تقلب فيها المواطن بين سنوات عسرة ويسرة .
ثم ماذا بعد ؟ هذا هو السؤال الذي يفترض أن يجيب عليه كل مواطن خرج للشارع منذ 19 ديسمبر من العام الماضي ثم 14 ديسمبر ، وحتى خلال الساعات القليلة الماضية في ذكرى مرور عام كامل من الثورة .
ماذا كسب المواطن من حشد 14 ديسمبر لإسقاط حكومة حمدوك ؟ ثم ماذا كسب ذات المواطن من حشد 19 ديسمبر دعماً لحمدوك ؟ ونفترض جدلاً أن هذه أو تلك كانت الأقرب بلوغاً إلى المليونية .. ماذا كسبنا من تلك الأغلبية في الحشد ؟ هل من تغيير منتظر على مستوى المعيشة وسبل كسب العيش الكريم ؟ هل تساعد الحشود الهادرة التي انتظمت شوارع الخرطوم في الخروج من مأزق عدم وجود موازنة للدولة ونحن على مشارف أيام من دخول عام جديد ؟ .
من عجب أن البعض يقول لك لازال الوقت مبكراً ، وليس من العدل أن تطالب حكومة الثورة أن تعالج في عدة أشهر كل مساوئ الإنقاذ في 30 عاماً ، ويمكن أن نتفق مع هذا القول في حالة أن تكون حكومة حمدوك قد أظهرت جهداً مبذولاً في المعالجات الاقتصادية وحماية البلاد من زيادة التدهور ، ولكن الواقع أن حكومة الثورة انصرفت بكلياتها نحو الثأر من نظام فقد كل قوته وتقصقصت أجنحة طيرانه ، واستغرقت حكومة حمدوك جهدها ولازالت في البحث عن أسباب تجريم وتخوين منسوبي الإنقاذ .
الشاهد أن الثورة التي نجحت في إزالة نظام البشير، كان مطلبها المباشر (يسقط بس) ، بينما فشل من تصدى للعمل التنفيذي بعد ذلك أن يحقق المطالب المصاحبة لسقوط النظام ، والتي دفعوا أرواحهم فيها مهراً لحياة كريمة أفضل للجيل الذي يمثلهم من شباب ننظر إليه بأنه المستقبل المشرق ، حيث زادت مشقة الحياة المعيشية للمواطن ، وتصاعدت أسعار السلع الأساسية والضرورية أضعافاً مضاعفة ، وواصلت العملة الوطنية انخفاضها وتدهورها في مواجهة الدولار ، مما تسبب في ارتفاع أسعار كل شيئ بداية من الحصول على العلاج لفقراء المرضى حتى أسعار الطيران لطلاب العلم في أرض الله الواسعة .
ثم ماذا بعد ؟ هل نطمع في أن ينصرف فأل الثوار وأملهم الكبير رئيس الوزراء عبدالله حمدوك الى النظر في محاولات جادة وحقيقية للخروج بالبلاد من حالة إحباط الثورات ؟ هل نحلم لنصحو على واقع مختلف يحمل بشريات ملموسة تساهم في رفع معدل حماس المواطن واتجاهه نحو الانتاج لسد الفجوة مع الاستهلاك ، أو على الأقل معالجتها جزئياً في خطوة لإكمالها فيما بعد ؟ ـ عن الفجوة أتحدث ـ .
ليس هذا وقت يتلاوم فيه أنصار الماضي ومؤيدو الحاضر ؟ لان نتائج إظهار اللوم ستكون وبالاً على السودان اسماً ومعنى وكيانا وأرضا وشعبا .. مطلوب خطوات شجاعة ، خطوات تؤكد ثقة الحكومة في نفسها ووثيقتها الدستورية وجهازها القضائي وشعبها العملاق الذي سد الأفق في 6 أبريل بالقيادة و19 ديسمبر بساحة الحرية .
لا يمكن أن تكون أول الخطوات الشجاعة شيئاً آخر غير إطلاق سراح كل المعتقلين بسبب الانتماء للنظام السابق ، ثم العمل على تقديم وثائق ومؤشرات اتهام أي شخص للنيابة والقضاء الذي يتولاهما الآن مع مساعديهم عناصر أساسية في قوى الحرية والتغيير ، ولا أعتقد أن بينهما من يعجزه أن يقدم دليل اتهام حقيقي وملموس تجاه أي قيادي سابق في الإنقاذ ليمثل أمام القضاء العادل ، وفي تقديري أن حرمان أي شخص من حريته دون توجيه اتهام ، هو أمر لا يتوافق مع أهزوجة الحرية والسلام والعدالة التي تصاعدت من حناجر شباب السودان حتى بلغت أقصى سماوات العالم على ضفاف المحيطات من أقصاها الغربي إلى محاذاتها الشرقية .
لن نقول أن 14 ديسمبر أظهرت قوة المشاركين فيها ، ولن نقول أن 19 ديسمبر أكدت سيطرة منفذيها على الشارع ، الواقع أن المواطن الذي خرج بالأمس واليوم ينتظر أن يجنى ثمار الثورة في واقعه المعيشي بدلاً عن رفع قفازات التحدي بين مجموعتين متنازعتين على السلطة .