آراء

قصة واقعية: زاهية والأرض السبخة (1- 4)!

يكتبها / عادل عسوم

(أحداث هذه القصة حقيقية في الكثير من تفاصيلها، لكنني قمت بالتحوير في أسماء شخوصها، ونُذُرٍ من تفاصيلها، حرصا على السِتر، واتساقا مع سياق القصة).

..

وقفت أمام المرآة تتأمل جسدها الفارع الممشوق، وقوامها الذي قالت عنه زوجة خالها الأمريكية بأنه Slim، وتعهدت بكفيها ضفيرتي شعرها الأسود الطويل، وأنحنت مقتربة أكثر وهي تحدق بإعجاب في عينيها الدعجاوين، وبياض إهابٍ ورثته عن أبيها صاحب الجذور التركية من خلال أمه، ثم شرعت تدندن راقصة:

ياالزاهي في زيّك في وسامتك ياااااا…

مانحنا عايشين علي ابتسامتك ي..

وفجأة؛

تقتحم عليها أمها الغرفة غاضبة:

-يابت أنا ستين مرة ما (قايلالك) تسيبي العرجين القدام المراية دا؟

وهوت بيدها على ظهرها،

إنتي بس الله يطيرك يمرقك منّي، والله مافي واحدة من اخواتك فقعت مرارتي زيّك، يلا أمشي على العدّة ديك غسليها.

هرولت (زهرة) إلى المطبخ، وجلست تغسل المواعين وهي تلعن حظها العاثر.

جاءت إلى الدنيا بعيد زوال نعمة كانت الأسرة تتمتع بها إلى عهد قريب، والدها كان تاجرا كبيرا مشهود له بالغنى، وكذلك بالطيبة والكرم، لكن دارت عليه الدنيا من حيث يدري ولايدري فافتقر وأصيب بجلطة ألزمته الفراش واصبح لايقو على الخروج من الدار إلا قليلا، واعتادت زهرة القول لصويحباتها في الحي:

– الواحد في الدنيا دي أصلو مايكون طيب مع الناس، أبوي كان أغنى زول في الحِلَّة، لكنو ضيع قروشو كلها في الناس المابتستاهل دي، ويومو الإحتاج للناس؛ زول جاب خبرو مافي!.

كم نصحتها صديقتها وجارتها وزميلتها في المرحلة الثانوية حنان بأن لا تسمح لهذه المشاعر السالبة السيطرة عليها، فيكون رد زهرة:

– أسكتي أنتي بس، انتي شِنْ عرّفك بالدنيا كمان.

كم كانت تَغْتَمّ عندما تسوقها قدماها الى دُورٍ أفاء الله على أهلها بالنعمة، فتقول لحنان:

مايستاهلوها والله!.

فترد حنان:

– استغفري يازهرة، وخافي ربك، والله الحسد دا ألاّ يودرك.

فترد عليها:

-أسكتي بس، وبعدين ستين مرة أنا قايلالك أوعك تناديني بي (قشرة) دي، أنا إسمي زاهية، زاااااهية سامعة واللا لأ…

كم كانت تعجبها نظرات الإعجاب والأستملاح من الآخرين، وكم سعت إلى تصيد فتيان الحي الأكثر وسامة والأيسر حالا منهم، توحي لكلٍّ منهم  بأنه الأوحد الأثير لديها، وهي بذلك يكتنفها احساس برضى كاذب لاتعلم كنهه…

أبوها الذي أضحى حرضا ظل ملاذها كلما قسى عليها أخوها الذي يكبرها، وقد اعتاد ترصد خطواتها وتعنيفها، بل وضربها رفضا لطريقة مشيها، وأسلوب حديثها مع الشباب بالذات.

زهرة آخر العنقود، وهي ثالث ثلاثة من البنات تزوجت الاثنتان وسافرن مع أزواجهن الى مدن أخرى داخل السودان، وبقيت هي الوحيدة مع أخيها في البيت في معية الوالدين…

كانت قد فرغت لتوها من إمتحان الشهادة الثانوية، وأزَفَّ موعد إعلان النتيجة، ونجحت زهرة لكنها لم تتحصل على النسبة التي تؤهلها لدراسة الطب كما كانت تتمنى، يومها بكت طويييلا وهي تلعن حظها العاثر، وقالت لصديقتها حنان:

– أصلو الدنيا دي أنا عارفاها ماحتديني العاوزاهو…

فتقول لها حنان:

– أحمدي الله، ترانا نجحنا الاتنين، شوفي كم واحدة من زميلاتنا سَقَطَن، دي إرادة ربنا، فتحتنضنها وتبكي على كتفها طويلا…

لم تجد زهرة سوي تخصص الكيمياء بكلية العلوم في جامعة من جامعات الولاية المجاورة، حيث تم قبولها برفقة صديقتها حنان التي لم تؤهلها نتيجتها إلا لدراسة كلية التمريض العالي في تلك الجامعة، ولكن ما إن أزف موعد السفر إلا وتُتفاجأ زهرة بتخلف صديقتها عنها، لقد أتصل شقيق حنان الأكبر من العاصمة وأعلن للأسرة رفضه دراستها للتمريض العالي، وأصر عليها بإعادة العام الدراسي والجلوس للامتحان مرة أخرى، حزنت زهرة لذلك في بادئ الأمر، لكنها عادت وقالت لنفسها:

– أحسن زاتو، بي كدا أكون أتفكّيت من نصائحها الكتيرة دي..

سافرت زهرة مع والدتها وشقيقها ووصلوا إلى مقر الجامعة، وتمت  أجراءات تسجيلها، وحظيت بفرصة للسكن في داخلية البنات بالجامعة..

ثم شرعت في التعرف على أصدقاء وصويحبات جدد، وكانت كذبتها الأولى قولها لزميلاتها بأنها (شهادة عربية)، وان أسرتها تقيم في احدى دول الخليج، وأن اسمها (زاهية)!..

ولم تنس بأن تُدخِل على لهجتها بعض الكلمات الخليجية:

الله يحيّيكي..

ياهلا..

تكفين..

ما أدري..

ليش..

و ماابغي..

وسواها من الألفاظ التي ألتقطتها من قريبات لها يَعِشْنَ في تلك البلاد..

زهرة لم تكن تحتاج إلى بذل الكثير لتبدو في ثوب بنت الذوات، فهي بجانب جمالها لديها حضورٌ يلحظه كل من يتعامل معها، وقدرة فائقة على التأثير فيمن حولها، وهي كذلك بارعة -بفطرتها- في مظاهر الاتيكيت والبرستيج، يضاف إلى ذلك ذكاءٌ ونباهةٌ وبديهةٌ حاضرة يتبينها كل من يجالسها أو يلتقيها صدفة..

لحسن حظ زهرة لم يكن في القسم الذي تدرس فيه أحدٌ من اصحاب الشهادة العربية سوى طالبة من أهل تلك المدينة اسمها نازك، توفي والدها في دولة الإمارات العربية المتحدة لتعود الأسرة إلى السودان وتلتحق بذات الكلية، ولكن مع بداية العام الثاني، فاصبحت صديقة لها..

الجامعة تمور بنشاط كبير لأطياف اليسار على عمومها، ولم يكن ذلك مستغربا إذ غالب الطلبة والطالبات من مدينة مجاورة سبق أن شهدت خلال السبعينات -في عهد الرئيس نميري رحمه الله- حراكا كبيرا عماده نقابة السكة الحديد.

يتبع

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى