كفاءات سودانية عائدة «ضائعة»

بقلم: عادل عسوم

لقد اهتمت العديد من الدول بقضية هجرة الكفاءات منها إلى الدول الأخرى، وقد تم تسمية ذلك بنزيف العقول brain drain، ولعل السودان أحد أكثر الدول (تفريخا) للكفاءات، وفي العديد من المعارف والعلوم والمجالات طوال عقود من السنوات.

تشهد بذلك العشرات من دول العالم، بدءا من دول الخليج العربي وانتهاء بأوربا وامريكا، ولكن معلوم بأن الذين هاجروا الى الغرب عموما قد (فرزوا عيشتهم) كما يقال.

حيث يغوص المرء منهم بعد سنوات في المجتمع الجديد منشغلا بتثبيت اقدامه، ثم يغرق أكثر عندما يكبر الأبناء ليشدوه بوثاق اللغة الجديدة والتطبع المجتمعي الذي لافكاك منه إلى البلد الذي اختار العيش فيه.

وهنا تكون ازاميل العمر قد فعلت فعلها في جسده ووجدانه ليصبح السودان (الشقيق) نسيا منسيا.
مقالي هذا لايعني هذه الكفاءات (المنبتة) في شيء، انما يتحدث عن كفاءات جلها- إن لم يكن كلها- (عائدة) من دول الخليج أو سواها من دول لا يتسن الحصول على جنسيتها عدا قلة منها ولافراد قلائل من كفاءاتنا.

غالبا يعود المغترب السوداني (الكفاءة) من الخليج وسواه ستينيا في عمره، ومعلوم أن المرء في هذا العمر يذوي عنه عنفوان الشباب، ليتكالب مع الكسب المالي من (شقا الغربة)، ثم شروع الأبناء في الحياة العملية ليشيلوا الشيلة؛ فلايجد الكفاءة العائد إلا التشرنق في حياة البيوت والانشغال -على الاكثر- بالاعتناء بحديقة المنزل والانغماس في اجتماعيات الاهل والحي.

كفاءاتنا هذه تعود بذخيرة كبيرة من المعارف والخبرات العملية، يضاف إليها سعة في افق التعامل الحياتي مع بشر من جنسيات عديدة، ويعود ومافتئت في الاهاب منه حيوية يمكن ان تنطلق من اسارها إذا تيسرت له الفرصة لخدمة الوطن، وهنا يأتي دور الدولة لتتلمس كفاءاتها العائدة لتفيد من مخزونها الذاخر.

في البال عدد من الاصدقاء والمعارف ممن عادوا إلى الوطن، وكم آسى ويعتصر قلبي الألم عندما يصلني خبر انتقال احدهم الى رحاب الله دون ان يفيد منه السودان.

هذا المقال كتبته وفي البال أخ عزيز وصديق فاضل اسمه صلاح فضل محمد صالح، وهو في الأصل من أبناء امبكول في شمال السودان ويسكن الآن في الخرطوم، حاصل على درجة الماجستير في الرياضيات والعلوم من جامعة نيوهامبشير الولائية بأمريكا، وهو في خواتيم الستينات التي شرعت في الولوج إليها من العمر.
الحق اقول بأنني لم أجد طوال حياتي من بلغ مابلغ من رصانة في معرفة اللغتين العربية والانجليزية معا، عمق في معرفة قواعدها وابداع في الطرح قولا وكتابة!.

علما بانه من خرجي جامعة الخرطوم في كلية العلوم، لقد عمل لاكثر من اربعين عاما هنا في شركة أرامكو السعودية، وارامكو معهود عنها انها لاتنتقي إلا الكفاءات.

حيث تدرج في وظائفها من معلم متقدم إلى معلم أول، ثم رئيسا لشعبة الرياضيات والعلوم التجارية، وانتقل إلى قسم تطوير وتقييم البرامج التعليمية كمحلل أول، ورأس لجنة السلامة والبيئة بمركز الإعداد الجامعي.

وكذلك بقسم تطوير اللغة الإنجليزية كعمل إضافي لفترات طويلة متقطعة، وقد أتقن صديقي هذا الترجمة بامتياز، وقد علمت بأنه تم تكليفه بترجمة برنامج تعليمي أنتجته MIT (مؤسسة ماساتشوستس الشهيرة)، قام بذلك على افضل مايكون، وقد تيسر لي قراءة هذه الترجمة مصادفة واجزم بأنها من أفضل من قرات من ترجمات طوال حياتي.

الرجل بارك الله في عمره قد بلغ مرحلة أحسبها تصل إلى درجة من الكمال البشري في اتقان اللغتين العربية والانجليزية، ومافتيء العديد من طلبته من السعوديين يذكرونه باجلال عجيب، وهو مشهود له بالهدوء والطيبة وحسن الخلق واحترام الآخرين.

هذه الكفاءة السودانية موجودة الآن في السودان، لقد عاد إليه -عودة نهائية- قبل اشهر قليلة، قلت له قبل أيام مهاتفا:
ليه يا صلاح ماحاولت تقدم للسودان شي من خبراتك دي؟.

قال لي بصدق يجمل نبرته الهادئة المرحة:
والله يابشمهندس متمني أعمل لي حاجة لي بلدنا دا، لكن طول البعد من السودان خلاني ما عارف امشي وين واللا اقابل منو!!!.

صديقي صلاح هذا وبفضل الله عاد من الاغتراب بما يكفيه ليعيش سعيدا طوال بقية عمره، لكنه واحسبه كسواه من كفاءاتنا العائدة يؤرقه انتفاء وجود جهة تعنى بأمثاله كما هو الحال في العديد من دول العالم، وامثاله في وطني لايسعه الا انتظار انقضاء الاجل -بعد عمر طويل ان شاء الله- لتذوي وتندثر معه الكثيف من المعارف والخبرات التي اكتسبها في خارج السودان!.

ليت لي صوت نبي الله ابراهيم عليه السلام لـ(انادي) في الناس بأن يااااا أهل الشأن في بلادي ابحثوا عن هذا الرجل وخذوا عنه الكثير مما يحتاجه الوطن.

اللهم قد بلغت فاشهد.
ياوطني لقد بلغت فاشهد.
يا أهل السودان لقد بلغت فاشهدوا.

[email protected]

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى