آراء

«يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف»

بقلم: عادل عسوم

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
{لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا ۗ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} البقرة 273.

منذ يفعي شدتني هذه الآية الكريمة وتعلقت بها كثيرا، كنت حينها في المرحلة المتوسطة عندما بدأت انتبه وأبحث عن المعاني والمباني، فإذا بي أستشعر أبعادا وعمقا ووضاءة تنداح من الكلمات: (التعفف) و(سيماهم) و(إلحافا) ليصبح لها وقعها الآثر على وجداني.

ويومها لم يكن (قوقل) قد ظهر بعد، فسألت أستاذ التربية الإسلامية في المدرسة المتوسطة، فذكر لي المعاني ال(لغوية) للكلمات، ثم اجتهد في تفسير الآية، لكن تفسيره لم يقع في نفسي الموقع الذي يحيط بمقاصدها ومراداتها إذ لم أجد فيه بغيتي، لقد بدت لي الآية محاطة بهالة من نور اليقين بالله، واحسست في سياقها بمظهر من مظاهر العمق الإيماني بالله عظيم.

فما كان مني إلا أن سألت جدي محمد الحسن حاجنور رحمه الله عندما أتيت في ركاب الأسرة إلى البركل خلال إجازة العام الدراسي، قال رحمه الله:

لن أحكي لك عن سبب نزول الآية يا ابني، ولن اتحدث عن معاني كلماتها، ولن أخوض لك في تفسيرها، فكل ذلك يمكنك تعلُّمه في قابل سنيك إن شاء الله، لكنني سأحكي لك عن واقعة وأعلق عليها.
فأومأت رأسي إيجابا…
قال رحمه الله:

دق أحدهم الباب على أحد الصالحين وهو من جيرانه، فعاد إلى زوجه وسألها إن كان لديهم شئ يتصدقون به، فأشارت إلى تمر لهم، فأخذه وأعطاه الطارق، ثم عاد (باكيا)!، فقالت له: ما يبكيك وقد تصدقت عليه؟!
قال:
لأنني تركته إلى أن جاء وسألني!!!.

قال لي جدي رحمه الله:
في هذه القصة ستجد نصف معنى الآية الكريمة يا ابني.
أما النصف الآخر فهو في هذه الوصية:

سؤال الحاجات من الناس هي الحجاب بينك وبين الله، فلتحرص بأن تنزل حاجتك بمن يملك الضر والنفع، وليكن مفزعك إلى الله جل في علاه فإنه سيكفيك عن من سواه، بذلك ستعيش سعيدا بحول الله وتوفيقه.
انتهى قول جدي رحمه الله.

ومافتئ وجهه الصبوح يلوح لي بابتسامته الوضيئة ولغته الفصيحة، أبصره (ولا أقول أراه) كلما قرأت هذه الآية، وبقيَت وصيته كشعاع ينير لي كل ماعتم أمامي في دنياي.
الآية على الأرجح تتحدث عن صحابة طالهم الفقر لأنهم لايعملون، أي لامهن أو أعمال يعتاشون منها، والسبب في ذلك أنهم حَصَرُوا أنفسهم على الجهاد ولم يحبوا الاشتغال والانشعال بسواه!.

وجلهم كانوا من المهاجرين، والإسلام حينها كان في أمس الحوجة إلى من يتفرغ للجهاد، وقد أسماهم الناس أهل الصُّفة.

كثر منهم ترك خلفه في مكة المال والدار ومصدر الرزق ليهاجروا إلى حيث هاجر خير خلق الله، ومنهم من عاهد نفسه وربه ونذر نفسه لحراسة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأقاموا في المسجد المطل على بيوت نبينا صلى الله عليه وسلم وقد كانت غرفة من طين لكل أم من أمهاتنا، وانشغلوا بقراءة القران وحفظ أحاديث نبينا صلى الله عليه وسلم، وقد سئل أبوهريرة عن السبب في كونه أكثر الصحابة حفظا للحديث النبوي الشريف فقال، لم أكن مثل ابي بكر او ابن الخطاب او ابن ابي وقاص أو ذي النورين منشغلا بعمل او تجارة، فانصرفت إلى ذلك اجالس النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأحفظ كل ما يليني…
ولاغرو ان ملازمة كلام الله، والانشغال بأحادبث نبينا صلى. الله عليه وآله وسلم تشف بالنفس وتسمو بها:

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} الزمر 23.

ولعمري ان مجالسة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم تشرح الصدور وتغسل النفوس من كل أدرانها، فيتسامى الوجدان ويرتقى المؤمن درجات في مدارج السالكين إلى الله.

فإذا بهؤلاء لا يسألون الناس الحافا حتى يحسبهم من الرائي أغنياء لتعففهم وحيائهم، ولا يتبينهم إلا الذي يدري بهم او صاحب فراسة…
يااااااه

وكم في دنيانا من أمثال هؤلاء الاتقياء الانقياء العفيفين من أصحاب الحياء يعيشون بيننا ولانتبينهم!.

كم من أهل حوجة ماسة يغلقون عليهم ابوابهم كالذي يستر عورته…
يغلقونها كي لايريقون ماء وجههم ويسألون الناس، ولان اضطر أحدهم وسأل لاتجده يسأل أحدا من الناس الحافا!.

امثال هؤلاء يا أحباب علينا بذل الجهد لنتبينهم ونعرفهم، وعندما نمد لهم يدا ينبغي أن لانجرح مشاعرهم فلايكون العطاء إلا سرا، وكم آسى على اصحاب برامج تلفزيونية وكذلك أصحاب محتوى في اليوتيوب يبحثون عن أصحاب الحاجة فيسهمون في العطاء، لكنهم لاينتبهون إلى مشاعر هؤلاء المساكين…
علينا أن نمر على (دكاكين) الحي والأحياء المجاورة لنبحث عن الاسر المعسرة وقد تراكمت عليها الديون، وليت اصحاب المحتوى في اليوتيوب يجعلون أهل الحوجة هؤلاء هما ومنهم المرضى الذين تركوا الصيدليات بسبب الغلاء الفاحش للدواء، للاسف جل اصحاب المحتوى ان لم يكن كلهم منشغلون بتوافه الامور أسأل الله السلامة.

اللهم لاتجعل قلوبنا قاسية…
اللهم يالطيف وياكريم اسألك برحمتك أن تكن لعبادك الضعفاء الفقراء والمساكين من المتعففين واغنهم من فضلك يامن بيدك خزائن السماوات والأرض.

اللهم ياحنان يامنان أسألك بجودك أن تفتح لجدي ود حاجنور في مرقده بابا من الجنة لايسد، ويوم يقوم إليك الناس أسألك ياربي أن تسقه من حوض نبيك شربة لايظمأ بعدها، ويوم يلقاك أسألك يا الله أن تهبه لذة النظر إلى وجهك الكريم، إنك ياربي ولي ذلك والقادر عليه.

وإلى المقال/الخاطرة التاسعة عشرة ان شاء الله.

زر الذهاب إلى الأعلى