آراء

عليكم الله نادو لى حنان

بقلم: الدكتور علي الشايب ابودقن

الدولة التي ليس فيها فنانين كِبار ليس فيها ساسةً كِبار

كان أستاذنا بمدرسة القضارف الثانوية القديمة على الأزرق عليه رحمة الله بحراً من العلوم فى مجال اللغة العربية وآدابها وله طرفة حين كان يدرسنا ويلقى على مسامعنا نونية الشاعر والوزير الأندلسى إبن زيدون والتى قالها فى محبوبته ولادة بنت المستكفى:

أَضحى التَنائي بَديلاً مِن تَدانينا
وَنابَ عَن طيبِ لُقيانا تَجافينا
بِنا وبِنتُم فما إبتَلتْ جَوانِحنا

شوقاً إليكُم ولا جَفت مآقِينا
أَنَّ الزَمانَ الَّذي مازالَ يُضحِكُنا
أُنساً بِقُربِهِمُ قَد عادَ يُبكينا
نَكادُ حينَ تُناجيكُم ضَمائِرُنا
يَقضي عَلَينا الأَسى لَولا تَأَسّينا
حالَت لِفَقدِكُمُ أَيّامُنا فَغَدَت
سوداً وَكانَت بِكُم بيضاً لَيالينا

إلى أن وصل بيت الشِعر الذى يقول
إِن كانَ قَد عَزَّ في الدُنيا اللِقاءُ بِكم
ففى مَوقِفِ الحَشرِ نَلقاكُم وَتَلقونا

فما أن وصل أستاذنا إلى نهاية الشطر الأخير حتى قال منتشياً بصوته الجُهورى بالله شوف يجي واحد يقول ليك نتلاقى نتلاقى فى الرملة الدُقاقهَ؟.

وكان هذا البيت الشعرى السودانى الجميل والذى تغنى به الفنان الرائع د عبدالقادر سالم يُعَدُ من سقطِ الشعر فى تلك الحِقبة حين كان للسودانى أُذنٌ شفيفة وذوقٌ سمعىٌ مرهف وخيالٌ خصب لكل صنوف الأدب والشعر الذى يجسد قيم الأُمة وآمالها وأحلامها.

فى ذلك الزمان كان الشعر يتكئ على ينابيع من الشوق واللهفة والحسرة والجمال والفروسية والإقدام والجسارة ولا يخرج عن حواضن قيم المجتمع وعاداتهُ وتقاليدهُ.

إقرأ أيضا:

عليكم الله نادو لي حنان “3”

فحين كان المجتمع يطأ الثرى ويلامس الثريا بقيمه خرج من بين أصلابه (شعراء وفنانين كبار وأفذاذ) ولا غُرو في ذلك حيث يقابلهم على الضِفة الأخرى (ساسة كبار وأفذاذ).

نسقط ذلك على واقعنا الشعرى القديم والحديث ونستصحب على سبيل المثال لا الحصر الشعراء عمر البنا ومحمد سعيد العباسى وبروفيسور عبدالله الطيب ومحى الدين فارس وفطاحلة الشعر الغنائي محمود العبادى وسيد عبدالعزيز وعبدالرحمن الريح ومحمود التنقارى وود الرضى الذى أنشد:

ليالى الخير جادن من المحبوب
نسايم الليل عادن من المحبوب
شفت فى الأحلام ظبى يتهادن

برخيم نغمات خلى تنادن.

ويترنم الفنان المعلِم محمد ميرغني من كلمات محمد بشير عتيق:

ارجوك يا نسيم روح ليهو
بأشواقى وصرح ليهو
وأذكر صبوتى وسهادى
روح يا نسيم قول ليهو
مثِّل شخصى واشرح ليهو
إخلاصى وشعورى إليهو
والأغرب كمان قوليهو
مع شغفى وميولى عليهو
فى تعذيبى برتاح ليهو

والقائمة تطول من لدن إسماعيل حسن ومحمد على أبو قطاطي وإدريس جماع والسر قدور وفضل الله محمد والحنلقى وعبدالله الكاظم وعوض جبريل والشاعر الصديق التجانى حاج موسى:

أمى الله يسلمك
يديك لى طول العُمر

فى الدنيا يوم ما يؤلمك .

وشتان ما بين ذاك العهد وأعوام الرمادة فكيف لا يتأثر الغناء طالما قادة (عصر الرمادة) وخُطبهم تبدأ محذوفة البسملة وبشِعرٍ على شاكلة (السُنبلة والجرادة) (السانات والراستات والواقفين قنا).

حين يتسيد المشهد السياسى ساسة أقزام ينحدر الشعر والغناء. وشتى ضروب الفن صوب الإسفاف والغرائز الحسية .

عندما كان يقول الازهرى وكذا المحجوب فى خطبهم (شعبنا العظيم) حينئذ كان الشُعراء والمغنون يرتقون لمستوى القادة والسياسة.. فها هو الصاغ محمود أبوبكر يصدح:

صه يا كنار ودع يمينك فى يدى
ودع المهابة والصبابة والددى.

ووردى يتغنى فى حب الشعب وعنفوانهُ:
يا شعباً تسامى ويا هذا الغمام.

وحين يفتتِح القادة خطاباتهم بالبسلمة وآياتٍ من الذكر الحكيَم والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم
كان الفنان ينشد مستلهماً قيم الشهادة:

أُماهُ لا تجزعى فالحافظُ الله
إنا سلكنا طريقاً قد خبرناهُ

حتى الغناء العاطفى لم يكن مُبتزِلاً فنرى الفنان الرائع عثمان حسين.. الأنيق الكلمة واللحن والملبس كان يطرِب أصحاب الذوق الرفيع فى تلكم الأيام الخوالد:

عِشقتك وقالوا لى عشقك حرام

إقرأ أيضا:

عليكم الله نادو لى حنان “2”

وإبن البادية يغنى لأبو آمنة حامد ذلك الأدروب القادم من الشرق:

سال من شعرها الذهب
وتدلى وما إنسكب
كلما عبثت به موجةً
مال وإضطرب.

ويصدح محمد الأمين بأُغنية من كلمات صلاح عبدالسيد أبوصلاح:

العيون النُوركن بجهرها
وغير جمالكِن مين السهرا
يا بدور القلعة وجوهرا.

وفى عهد السنبلة والجرادة تنقل القناة السودانية من يتغنى منتشياً ومترجياً:
(عليكم الله نادو لى حنان ! عليكم الله جيبوا لى حنان!).

لا عجب فى ذلك (فالناس على دين ملوكهم) فمن حقه أن يغني ولكن ليس من حقه أن يطلب من الشعب أن ينادوا ويجيبوا لهُ حنان.

وإن فعلوا ذلك لارتكبوا خطأ المجلس العسكرى الإنتقالى الذى رضخ لثلة من سارقى التغييرات وجاب ليهم السلطة على طبقٍ من ذهب.

مع علمهم بسلوك هؤلاء ومرجعيتهم الأخلاقية ورغم ذلك سلمها لهم بريئة وغنيمة باردة فعاثوا فيها وأفسدوها فتحمل المجلس العسكرى وزر التسليم لمن لا يؤتمن جانبه.

فهل يريد المغنى من الشعب أو أحد أفراده ارتكاب هذه الخطيئة وتسليمه حنان في عصر الرمادة والابتِزال؟.

الوطن الذى يتقزم فيه الفن نتاج طبيعى لِتقزُم ساسته وقادته، فالدولة التى ليس فيها فنانين كِبار ليس فيها ساسةً كِبار .

*محامى وأستاذ مساعد للقانون الدولي العام والدستورى

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى