آراء

عليكم الله نادو لي حنان «٢»

بقلم: الدكتور علي الشايب ابودقن

عصر الرمادة

الشاعر المرهف على محمود التنقارى لم يكن سياساً ولم يفرُض نفسه على الشعب السودانى شاعراً و سياسياً وقائداً كما فرض أهل السنبلة والجرادة والمهانة والخلاعة والكذب أنفسهم على الشعب السودانى بشخوصِهم الباهتة وضعف قُدراتِهم العقلية والعلمية إلا من إتكاءةٍ على آلاتٍ إعلاميةٍ لدولٍ خارجية يدفع مقابلها الأقزام عمالةً وإرتزاق وإرتهانٍ للوطن وبيعه بأثمانٍ بخسة على أسواق النِخاسة. 

آخرون من قادة عصر الرمادة كل قُدراتِهم فقط إنهم يتكئون على إرث آبائهم وليت آباءهم ورثوها ميراثاً صافياً كحقاً مملوكاً لهم بالأصالة جدٍ عن جد عن أكابر ولم يشاركهم أو يساهم فيه أحد بنصيبه من هذا الإرث ولكنه كان نتاج ثورةٍ سُرقت بليلٍ بهيم وقد شارك وساهم فيها آنذاك كل الشعب السودانى مجاهداً ومؤازراً وداعماً.

على سبيل المثال لا الحصر  الزاكى طومال وليس (طمل) وحمدان أبو أنجة وليس (عنجة) وأبودقن جد كاتب المقال وآخرون حيث كان لهم شرف دك حصون الإمبراطورية الإثيوبية في حاضرتها قندر وقتل الراس كاسا.

وهل نستطيع أن نسقِط المك آدم ام دبالو الذى كان له شرف إستقبال المهدى بقدير وحمايته ومن ثم تجييشه؟ وقد تجاهل كُتاب التاريخ سبر أغوار وفاته.

وكانت دارفور حاضرة بالخليفة عبدالله التعايشي ورهطِه، ذلك الزعيم الذى حافظ على السودان كدولة مستقلة ذات سيادة لم تدنسها أرجل العملاء والفرنجة إلا بعد مقتل عشرة آلاف مجاهد تحت راية لا إله إلا الله محمد رسول الله ، الله أكبر ولله الحمد وليس تحت راية المثليين والسفور والخلاعة والمجون حيث حصدتهم مدافع إمبراطورية الشر. 

وعندما أيقن الخليفة دنو أجله في معركة أم دبيكرات جلس مع أخيه الأمير يعقوب وإبنه الأمير شيخ الدين على سجادة صلاتهم وإستشهدوا وما بدلوا تبديلا وهنالك الأمير محمود ود أحمد والأمير يونس الدكيم وغيرهم كثيرون.

الشمالية قدمت الأشراف وذاك الامير البطل عبدالرحمن النجومى ومن الشرق أميرها وزينة رجالها عثمان دِقنه وما أدراك ما دِقنة ومن الوسط ودحبوبة الذى مشى إلى المشنقة واثق الخطوة كأنما إستلهم الشاعر المصرى إبراهيم ناجى مشيتهِ التى تعبر عن دلالات الثقة فى الشطر الأول لبيت شِعِرٍ من قصيدة غنتها سيدة الغناء العربى أم كلثوم:

واثق الخطوة يمشى ملكاً

ناقص الحُسن شهىٌ الكِبرياء

لكن بعض قادة ( ةعصر الرمادة والابتِزال) أؤلئك الذين ينقصهم الحُسنِ لذا يشتهون الكبرياء يتنعمون ويرفلون على سُررِ سلطة وصولجان بفضل إرث الثورة المهدية المسروقة وأحفاد السودانيين الذين ساهموا فى هذه الثورة ومهروها بدمائهم الذكية لا يعرفون شيئا عن هذه السُرر السلطوية ولا تلك البنايات الشوامخ بشوارع البلدية وغيرها من شوارع الخرطوم وأم درمان.

ويحدثونك عن الفساد والتمكين ويجدون من يدافع عنهم بحثاً عن موطئ قدم بين كراسي الثورة المزعومة والمصنوعة والمسروقة.

فإن عهد سرقة الثورات والتغييرات ومكتسباتها والسطو عليها لم يبدأ مع عصر السنبلة والرمادة ولكن ناخ بكلكلهِ منذ عصرٍ سحيق ولكن السؤال يظل قائماً منذ متى كان يدافع المنوط بهم حماية الأرواح والممتلكات العامة والخاصة عن عصابات السرقة والفساد ومنذ متى كانوا يستجدون اللصوص لكى يفسحوا لهم فى مجالس السلطة ؟ ذاك من عجائب وعلامات عصر السنبلة وأعوام الرمادة. 

التنقارى لم يكن كمبتذلى أعوام الرمادة ولا كشعراء السنبلة والجرادة ولكن وهبه الله سبحانه وتعالى منذ الأزل أدوات الشعر وخصال الشعراء الأماجد من المفردات الرنانة وبديع المعاني والأُسلوبٍ السلس الجميل والنسقٍ المموسق من الخيالٍ الخصب واللغةٍ الجزِلة وتلك فِطرة تجعل ربة الشعر تمشي الهوينا وهى مناقدة صوبهِ دون عناء ومشقة. 

التنقارى نموذج واحد فقط من شعراء تلك الحقبة والتى كانت تمور وتموج بِقادة وساسة يحمون الدين والقيم وبيوتٍ يُذكر فيها إسم الله كثيراً وفنانين كبار أصحاب قامات واقتصادٍ يكفي شر ارتهان القرار وقيم فاضلة تحافظ على القوارير ذوات الخدور وربات الحجول .

للتنقارى عدة قصائد غِنائية تركت بصمات على صفحات الغناء السودانى وقد شكل ثنائيات مع المطرب القادم من ديار الشايقية والتى يتسم قاطنيها بالرقة والعاطفة والتحنان.

حيث إن الشعوب التى تقطن على ضفاف الأنهار يتسمون بلين الجانب ورقة الحديث وبينهم والجفاف النفسي مساحاتٌ ووديان وهذا على مقياس الغالب الاعم ولكل قاعدة شواذها.

وليس هذا قولنا وإنما قال بذلك علماء  الإثتوغرافيا والاجتماع المشتغلون بهذا العلم الذين تناولوا هذا الجانب الذى يعرف بـ(عِلم  خصائص الشعوب). 

وقد عرفهُ بعض العلماء بعلم الأقوام ويعرف أيضا بالإثنوغرافيا أو علم الأعراق البشرية أو النياسة دِلالة على أنه العلم المختص بدراسة الناس من حيث عاداتهم وتقاليدهم ومعتقداتهم الروحية وطبائعهم.

وهنالك تداخل ما بين هذا العلم وعلم الاجتماع ولعل رائد علم الاجتماع إبن خلدون له قصب السبق فى ذلك وأشاروا إلى أن سُكان الأنهار والمدن لهم خصائص تختلف عن سُكان الصحارى والمناطق القاحلة أو الذين يقطنون على مقربة من البحار. 

هاهو الشاعر علي بن الجهم القادم من البادية يمدح الخليفة العباسى:

أنت كالكلب في حفاظك للود

وكالتيس في قراع الخطوبِ

أنت كالدلو لا عدمناك دلوًا

من كِبار الدلاء كبير الذنوب

مما أدهش الحاضرين بمجلس الخليفة ولكن الخليفة المتوكل لم يغضب وإنما أمر له بدارٍ غناءَ تطل على نهر دجلة يشاهد فيها المناظر الخلابة ويخالط اهل المدينة ويأخذ شيئاً من مدنيتهم ومظاهر حضارتهم فألف قصيدة تعتبر من أرقّ الشعر وأعذبه والتي يقول في مطلعها:

عيون المها بين الرُّصافة والجسر

جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري

كيف رقت طبائع الشاعر علي بن الجهم ولانت فوصف عيون الفتاةِ بعيون المها ما بين أحياء الرصافة والجِسر وهى أحياء ببغداد. 

فالأنهار بمياهها وخضرة أشجارها وحدائقها الغنَّاءَ تترك بصمات فى سلوك قاطنيها وتعمل على اعتدال مزاجهم وعُمق عاطفتهم.

لا شك أن بيئة الشايقية قد شكلت قريحة المطرب عثمان حسين (أبوعفان) فلحن كما ينبغي أن يكون اللحن الممزوج بالشجن والتطريب لتلك القصيدة التي تعتبر من روائع القصائد الغنائية.

فأسبغ عليها لحناً ممزوج بتلك الجينات آنفة الذكر ولا أحسب أن الزمان سيجود بمثل هذا الغناء خاصة ونحن في (عصر السنبلة والجرادة).

حتى لو تخطى السودان هذه المِحنة فيحتاج لأعوام لإعادة تشكيل السلوك الإيجابى والذوق الرفيع والأُذن السمعية الشفيفة وإيجاد ربةِ شِعِر تستلهم روح العاطفة النبيلة والقيم الفاضلة لما أصاب الناس من توهان بفعل سريان روح القطيع الهدامة.

التى مسخت وشوهت الذوق الرفيع والسلوك والقيم الفاضلة تحت دعاوى الوعى وأحدهم لا يفرق بين العلم والوعى ولا الفرق بين الحاء والهاء ويحفظ بضع كلمات من الإنجليزية ويحسب ان ذلك يجعله من أهل الوعي والثقافة.

ومنذ متى كان متحدث الإنجليزية واعياً ومثقفاً فهي لغةٍ للتواصل كسائر اللغات وإلا لأصبح اكثر من مليار شخص يتحدثون الإنجليزية او الفرنسية وبعض لغات الفِرنجة أصحاب ثقافةٍ ووعي.

روح القطيع الهدامة وجدت من يشرعِن لها ويوطنها لدى الشعب من خلال خطابات مُبتذلة تتنافى عنها جُنوب أركان النقاشات ومعتركاتها دِعك من أن تكون منقولة على الهواء مباشرة تهز وجدان الشعب وتطعن فى كبرياؤه.

ولا غرو إن إمتد الهدم لشتى مناحي الحياة الدينية والسياسية والاجتماعية والاخلاقية والثقافية والاقتصادية ولم يسلم الشعر والغناء من ذلك.

وحين أشرف كل شيءٍ على القاع كانت السمة البارزة لهذا العصر الهوان والرمادة أو عصر (عليكم الله نادوا لى حنان). 

دعونا نقارن وإن انعدمت المقارنة وذاك تجني على عصر الشعر والغناء النبيل، دعونا نستمع للشاعر على محمود التنقارى مستلهماً ربة شعره:

كيف لا أعشق جمالك

ما رأت عيناى مثالك

كيف لا أعشق جمالك

…………………………..

كيف لا أعشق جمالك

وإنت مُغري

زنت بأدبك دلالك وإنت سحري

فيك أجمل شيء خصالك وأنت بدري

وأبعد الغايات منالك

لو رنيت ترسل نبالك

قلبى لاعب بيهو مالك

إنت قلبي لاعب بيهو مالك

ليهو حق لو كان هوانك

وكيف لا أعشق جمالك

……………………………

بسمتك توحي الأغاني

وأسمى آيات المعاني

فى هواك لاقيت هواني

وبيهو راضي

……………

تندي زي زهر الخميلة

عالية وأخلاقك نبيلة

ويخجل البدرين هلالك

كانت الفتاة تزدان بالأدب وهي زهر الخميلة والعالية ذات الأخلاق النبيلة وفى عصر الرمادة يقول من يدعي القيادة (إنتهى الزمن البسأل فيها الأخ أو الأب بنته ماشه وين ولا جايه من وين). 

وليس لنا إلا نمشي على خطى أستاذنا بمدرسة القضارف الثانوية القديمة المرحوم على الأزرق طيب الله ثراهُ ونقول

كمان يجى واحد يقول ليك

(السنبلة والجرادة)

(السانات والراستات والواقفين قنا)

(عليكم الله نادو لي حنان). 

*محامى وأستاذ مساعد للقانون الدولي العام والدستورى

زر الذهاب إلى الأعلى