العيكورة يكتب: وتَرجّل عاشقُ «الطباشيرة»

بقلم: صبري محمد علي (العيكورة)
عندما تكتُب عن استاذك فذاك القصُور والنقص كُلُه، وعندما تُحاولُ ترتيب الحُرُوف والكلمات لذكر محاسن مَن علّمك ذات الحُرُوف والاملاء فالامرُ يحتاجُ وقفه وذكري وتامُل.
فالامر جَدٌ مُحرج وقاسٍ فما تخُطُ من حرفٍ إلا ويشرئبُ ذاك الوجه الصارم والمحيا الصبُوح للاستاذ عبد المجيد ابراهيم محمد النذير من داخل (كُرنك) القشّ بابتدائية (العيكورة) اوائل السبعينات من القرن الماضي ورائحة (الوطواط) تنبعثُ من المكاتب والمخزن وهِندام الرجُل الانيق وساعة معصمُها فضيٌ يُحركُها بين الفينة والاخري في حركة لا ارادية.
فماذا تقول في مَن علمك كيف تُمسك بالقلم ومن علمك هَمزة الوصل والقطّع وياءُ النداء وماذا تقول في مَن امسك باصبعك الغض على أديم الارض يُعلمك ان للالف همزة وللباء نُقطة وللياء اثنتين، فماذا تقول في مَن علّمك فاتحة الكتاب والمعوذتين والزلّزلة، وماذا تقول في مَن علّمك المُرسلات والنازِعات والذاريات والعاديات وماذا تعني (ضَبحَاَ).
وماذا تقول في مَن تعلمنا على يديه ان للحج اركانٌ وواجباتٌ وللوضوء شروطٌ ومُفسِدات وان الجنة تحت اقدام الامْهَات، ماذا تقولُ في من ارتقى بك صبره وحلمه وأناءته لتبلُغ الدرجات العُلي من العلمِ، بل ماذا تقولُ عن اناشيد الصباح والطابور والنظافة الشخصية.
ماذا تقولُ في مَن رعى الطفولة حتى اثمر الغرسُ ورأى بأم عينيه المُهندس والمُعلم والاخصائي والضابط هُم اطفال الامس الذين كان يُمسك بايديهُم يُعلمهم مسح التُراب للكتابه وهو موقنٌ ان الطب والهندسة وبقية العُلُوم تبدأ من هُنا حيثُ كان يُعطي بلا ضجيج ولا إعلام .
فهل سيُنصف قلمي مثل هذه القامة؟ بالطبع لا لن يستطع.
عزيزي القارئ لم تجدني عاجزاً عن الكتابة كما هو اليوم في حق اسْتاذي بالمرحلة الابتدائية الاستاذ عبد المجيد ابراهيم محمد النذير (رحمهُ اللهُ) ، الذي وضع عصا التِرحال مُلبياً نداء ربه الاسبوع الماضي .
وحق لنا أن نَصفهُ بمُعلم الاجيال (بالعيكورة) فكما علّمنا فقد علّم من هُم قبلنا ومن اتوا بعدنا وقد امتدت به الايام الخصبة ليُربي ابنائنا عندما تقاعد عن القطاع الحُكومي والتحق بالقطاع الخاص فلم يُغادر عشقه (السبُورة) حتى لقاء ربه .
فقد كان رجُلٌاً مرحاً سَمْحاً ليّناً غيرُ مُصادم تُدثره هيبة العِلم ، لا تُفارقه الابتسامة والطُرفة إرتقى من قُلوب الناسِ المَحبّة ودفئها ولا اظُن ان له خصيمٌ في هذه الدنيا حتي ارتحل عنها ، لا يُفتقد في مجالس الرجال ولا يستغنى عن رأيه الشباب ولا تمَلُ حديثه من تطلب المشورة من النساء.
عندما نلتقيه ايام العُطلات ينتابُنا شُعُور قوي انك ما زلت تحتاجُ ان تجلس لهذا الرجل ، ان تستمع اليه يُحدثك (أيُ حديثٍ) فهو بحرٌ من المعارف ، كنتُ احرصُ ان ادفعهُ عَمداً لايام الدراسة فسُرعان ما تصحُو بداخلنا نضارة تلك الايام وعذوبتها عندما نستمع لصوته !
تخيل عزيزي القارئ الصوت فقط يعود بنا الى عَبَق (قشّ النّال) وغُبار الطباشير وفُسْحة الافطار وازيار الماء و(الفكِي) ابراهيم مُوسى (فرّاش) المدرسة كان كثيرُ الدُعاء لشقاوتنا بالهداية عندما نلهو امامه حاملاً (جوز) الماء على كتفيه.
المرحلة الابتدائية هي النُقطة الفارقة في بناء الشخصية وغرس كل ما هُو جميلٌ في حياة النشء من الاحترام وحُبُ التعلُم وكان استاذُنا (رحمة الله عليه) هو صاحب ذلك الفضل مع الاستاذ السر حسين وعابدين محمد احمد وعبد الرحمن الطيب وعطا لمنان محمد ادريس وابراهيم ابو حدارة والشيخ ود عبيد وصديق الطيب والاستاذ حِنين وغيرهُم من المعلمين.
ولا أظُن أن احدنا كان يجرؤ ان يُخاطِبهُم باسمائهم مُجردةً دون ان يَسبقُها بكلمة (استاذ) ، هي ذات القيَم و الاخلاق التي غروسُها فينّا وربتنا عليها ازقّة القرية ورواكيبها حين ذاك.
مات قومُ وماتت فضائلهُم
وعاش قومُ وهُم في الناسِ امواتُ
اللهم إن عَبدُك واستاذنا عبد المجيد ابراهيم في رحابك وهو الفقير الي رحمتك وانت الغنيُ عن عذابه ، اللهم فأكرم نُزله ووسّع مُدخله وآنس وحشته ، اللهم وأجزه عنّا بخير ما جزيتُ به مُعلِمٌ عَلّم ورتّل وبلّغ عن رسولك آيه.
(إنا لله وإنا إليه راجعون)