آراء

مصطفى أبو العزائم يكتب:الخرطوم تطرد الادران

كان الشعراء والفنانون يتغنون لعاصمة بلادهم ، عندما كانت عاصمة مثلثة مكونة من ثلاث مدن، ويتمدد ريفها شمالا وجنوبا وشرقا وغربا، وحفظت الأجيال السابقة ذلك الإبداع الذي أصبح جزءاً من تاريخ بلادنا الفني والاجتماعي وتطورها العمراني والاقتصادي، وهذا من الأدوار التي يقوم بها فن الغناء، لأنه يسجل تلك المواقف بعين الفنان شعراً ولحناً وأداءً وتجاوباً من عامة الناس الذين تهزهم الكلمة، ويطربهم اللحن.
تغنى خليل فرح للوطن لكنه خص أم درمان بواحدة من أجمل وأعذب ما جادت به قريحته، وسما بها شعوره الفني، وهي اغنية “ما هو عارف قدمو المفارق” التي قدم لنا فيها جغرافية عاطفية للمدينة التي أحبَّها الخليل مدينة ” أم درمان ” وتغنى كثير من شعراء الحقيبة بحبهم لأم درمان التي كانت تعني وقتها الوطن ومنصة الحركة الوطنية، وخير مثال لتلك الأغنيات رائعة البنا العظيمة “إمتى أرجع لأم در وأزورها”، وقد تناوب الشعراء والفنانون في التعبير عن ذلك الحب شعراً وموسيقى على مر عهود الغناء، فتغنى عبدالمنعم عبدالحي لأم درمان وتغنى إبن حي العرب الأم درماني الشاعر عبدالرحمن الريح للخرطوم وأبدع أمير العود حسن عطية في الأداء، وتغنى مصطفى بطران ب” أطرد الأحلام يا جميل وأصحى .. قوم نقصي الليل في صفاف النيل ننشد الفسحة” مثلما تغنى لحديقة البلدية وهي الحديقة التي قام عليها فندق قصر الصداقة بالخرطوم بحري في مواجهة جزيرة توتي .. وتوتي نفسها تغنى بها ولها الشعراء والفنانون مثل” جزيرة توتي يا جنة ” ولا ننسى” يا درة حفها النيل” إحدى روائع شاعرنا العظيم التجاني يوسف بشير ، كما تغنى حتى المحدثون بحب مدنهم الجميلة فكتب عبدالقادر محمد زين ، ” أنا أم درمان” .
لقد كانت الخرطوم الكبرى أو العاصمة المثلثة قبل أن تتمدد ويصعب تحديد شكلها جغرافيا على الأرض ، كانت جميلة ونظيفة ، يتم رش شوارعها بالماء صيفاً ، ويتم غسل أسواقها بالمطهرات قبل أن يأتي الباعة وقبل أن تفتح” الجزارة” أبوابها ، وقبل أن يبدأ باعة الخضار المناداة على خضرواتهم الطازجة ، وكانت البيوت تخضع للتفتيش الدوري من قبل السلطات الصحية ، بإشراف رئاسة المديرية ، ومجالسها البلدية.
ظللنا نحلم بتلك الأيام التي عشنا بعضها أواخر عهد الخرطوم الذهبي ، قبل أن تصبح عاصمة مليونية يعيش داخلها أكثر من أحد عشر مليون نسمة ، وظللنا نحلم بعودة الصورة الزاهية القديمة بعد أغرقتنا النفايات الأوساخ في بيوتنا وشوارعنا مع عجز رسمي من قبل السلطات في إحتواء الوضع المتردي ، ولم نعد نغني للمدينة وتحولت تلك الأحاسيس المتوقدة بالمحبة إلى غضب ونقمة وضيق .
ظهر الأحد اجتمع أهل الحل والربط في” جمهورية الخرطوم ” اجتمعوا داخل قاعة الاجتماعات الكبرى في الأمانة العامة لحكومة ولاية الخرطوم ، برئاسة والي الخرطوم المكلف الفريق الركن أحمد عابدون حماد الذي قدم أعظم مشروعات الولاية لهذا العام والأعوام السابقة واللاحقة وهو الإعلان عن إنطلاق النفرة الكبرى للنظافة في أول ثلاثة أيام من شهر فبراير المقبل ، لتكون هذه النفرة بداية حقيقية لأعظم مشروع يتطلب مشاركة الجميع حتى نرد بالعمل لا الكلام على الذين أخذوا يسخرون من عاصمة بلادنا ، بل إن بعضهم تجرأ علينا ووصف الخرطوم بأنها أكثر العواصم قذارة في العالم ، وما هي كذلك لكننا نريد لها أن تكون الأنظف والأجمل مثلما كانت ذات يوم .

زر الذهاب إلى الأعلى